اخبار سوريا
موقع كل يوم -الفرات
نشر بتاريخ: ١٥ كانون الأول ٢٠٢٥
في تقرير صادم يسلط الضوء على واحدة من أكثر الزوايا المظلمة في منظومة قمع النظام البائد، كشفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان النقاب عن الدور الحقيقي المخفي الذي لعبه “الفرع 300” أو ما عرف رسمياً زمن الأسد المجرم بـ “فرع مكافحة التجسس” التابع لإدارة المخابرات العامة، فكان الواقع أن الفرع لاحق كل صوت معارض بالبلد.
أرقام وانتهاكات مروعة
سجل “الفرع 300” وفقاً لتقرير الشبكة أرقاماً مروعة تكشف عن حجم المأساة بداخله، فكانت هناك 17,438 حالة اعتقال تعسفي، و2,463 حالة قتل تحت التعذيب منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
واستند هذا التقرير، إلى تحليل دقيق لوثائق أمنية مسربة ومراسلات داخلية، بالإضافة إلى شهادات مؤثرة لناجين وذوي ضحايا، رسمت صورة مفصلة لفرع كان يعمل في الظلام، متمركزاً في قلب العاصمة دمشق، ليصبح عقبة أساسية في وجه أي محاولة للحرية، أو أي تواصل مع العالم الخارجي، وشاهداً على كيفية تحويل مؤسسة للدولة إلى آلة قمع منهجية ضد شعبها.
من “مكافحة التجسس” إلى “مراقبة الاجتماعات والأموال”
أُنشئ الفرع 300 أواخر السبعينيات – مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، بهدف رسمي هو مراقبة الأجانب ومكافحة التجسس، لكن وفقاً للتقرير فإن هذه المهمة تشوهت تماماً بعد ذلك.
في عام 2011 أصبح الفرع 300 الذي كان أحد الفروع المركزية في إدارة المخابرات العامة أداة لتعزيز قدرات النظام الأمنية على مراقبة النشاط السياسي والمجتمعي، وشكل مجموعات تابعة له في كل المحافظات السورية، حيث توسع مفهوم مراقبته لـ “الاشتباه بالتعامل مع جهات أجنبية”، ليشمل أي نشاط تقريباً، حيث راقب الفرع الدبلوماسيين والعاملين في المنظمات الدولية، ووصل إلى حد رصد اجتماعات أحزاب ومعارضين سوريين في العواصم المجاورة مثل بيروت، وتحليل التحويلات المالية، والاتصالات الدولية لمواطنين سوريين عاديين.
مبنى منغلق سري وسط دمشق
المقر الرئيسي للفرع 300 كان في حي كفرسوسة الأمني بدمشق، في مبنى منغلق تماماً، خالٍ من أي لافتات تعبر عن هويته، في تصميم معماري يعكس طبيعة عمله السرية، حيث يتألف من طابقين، أحدهما سفلي، تنتشر فيه الزنازين الفردية والجماعية، وغرف التحقيق والتعذيب؛ وطابق علوي، يضم مكاتب الضباط وأقسام الأرشفة والاتصالات.
وكان يديره ضابط برتبة عميد، ويعمل كجزء لا يتجزأ من شبكة المخابرات العامة، ينسق مع فروع أخرى مثل الفرع الداخلي (251) لمراقبة الداخل، والفرع الخارجي (279) لتتبع المغتربين، والفرع الفني (280) للتنصت والمراقبة التقنية، حيث جعله هذا التنسيق المحكم حلقة أساسية في شبكة القمع الأمني التي ترفع تقاريرها مباشرة إلى مكتب الأمن الوطني، وبالتالي إلى قمة هرم السلطة في نظام المخلوع بشار الأسد.
من الاعتقال التعسفي إلى الابتزاز المالي
لم تكن الانتهاكات في الفرع 300 عشوائية، بل كانت جزءاً من سياسة ممنهجة هدفت إلى خلق جو من الرعب يمنع أي شكل من أشكال المعارضة، والتي كان أبرزها:
1ـ الاعتقال التعسفي الواسع: لم يكن الفرع بحاجة مذكرات قضائية، وإنما كان يكفي اتصال هاتفي دولي، أو زيارة لمنظمة حقوقية، أو حتى شكوك في الولاء السياسي ليصبح الشخص هدفاً، حيث وثّقت الشبكة 17,438 حالة اعتقال، طالت ناشطين وصحفيين وموظفين حكوميين وحتى أجانب، كانوا يُحالون إلى الفرع 300 لتحقيق أولي، قبل نقلهم إلى فروع أكثر دموية مثل 215 أو سجن صيدنايا.
2ـ التعذيب لانتزاع الاعترافات: ركزت جلسات الاستجواب في الفرع على تهم جاهزة مثل (التواصل مع جهات أجنبية، تلقي تمويل، الإساءة للدولة)، فكان المحققون لانتزاع هذه الاعترافات، يمارسون أبشع أشكال التعذيب، من الصعق الكهربائي والتعليق، إلى الحرمان من النوم والتهديد بالاعتداء الجنسي، حيث سجّل التقرير 2,463 حالة تعذيب، الكثير منها انتهى بموت الضحية.
3ـ انتهاكات إضافية: لم يتوقف الأمر عند ذلك، وإنما مارس الفرع سياسات ابتزاز مالي بحق عائلات المعتقلين، مقابل معلومات زائفة أو وعود بالإفراج، كما كان يرصد الاتصالات الدولية دون أي إذن قضائي، ويحرم المعتقلين من الرعاية الصحية، تاركاً بعضهم ينزف حتى الموت في زنازينهم.
ناجين من جحيم الفرع 300
وراء الأرقام الباردة، تقف قصص إنسانية مروعة تروي تفاصيل المعاناة التي تعرض لها المعتقلون داخل جدران الفرع 300، حيث كشفت الشهادات التي جمعتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان عن نمط متكرر من الانتهاكات الوحشية.
أحمد الفاتح، مواطن سوداني كان يقيم في بريطانيا، وأصبح ضحية لهذا النمط، حيث اعتقل في دمشق عام 2011 أثناء عمل تجاري له، ووُجهت إليه تهمة التجسس لصالح بريطانيا، وتعرض لأساليب تعذيب شديدة للضغط عليه للاعتراف، ما أدى إلى تدهور حالته الصحية بشكل خطير، وبعد سنوات من الاحتجاز في سجن صيدنايا، أُفرج عنه دون أن يستعيد وثائق إقامته البريطانية.
أما ليلى خالد، ناشطة من محافظة حمص، فتروي كيف اعتُقلت عام 2012 أثناء زيارتها لدمشق، وكيف احتُجزت في الزنازين المظلمة، وتعرضت لضغوط نفسية وجسدية هائلة لإجبارها على الإدلاء بمعلومات حول أنشطة عائلتها، مع تهديدات مستمرة بالاعتقال لفترات أطول، وبعد أسابيع نُقلت إلى سجن عدرا المركزي لتستمر معاناتها.
وتتشابه مع قصة ليلى شهادة كريم عبد الرحمن، الموظف الحكومي من دمشق، الذي اعتُقل عام 2013 من مكتبه، حيث ركز التحقيق معه على علاقاته بالإعلام الأجنبي، وتعرض لصدمات كهربائية خلال استجوابات قاسية، قبل نقله إلى فرع التحقيق 285 دون أي مذكرة توقيف رسمية، ولم يُفرج عنه إلا بعد أن دفعت عائلته مبالغ مالية كبيرة.
هذه القصص وغيرها تؤكد أن الفرع 300 لم يكن مجرد محطة لجمع المعلومات، بل كان مسرحاً لجرائم فظيعة، شكل التعذيب والضغط النفسي أدوات رئيسية لانتزاع اعترافات جاهزة حول “التمويل الخارجي” و”التخابر”، في انتهاك صارخ لكل مواثيق حقوق الإنسان.
مسؤولية الجرائم تصل إلى قمة الهرم الأمني
يؤكد التقرير أن هذه الانتهاكات لم تكن أعمالاً فردية صادرة عن ضباط مارقين، بل كانت جزءاً من سياسة دولة ممنهجة، ووفقاً لمبدأ المسؤولية القيادية في القانون الدولي، يتحمل قادة إدارة المخابرات العامة مسؤولية مباشرة عن الجرائم التي ارتكبتها فروعهم، بما في ذلك الفرع 300.
ويشير التقرير إلى أن ثلاثة أشخاص فقط تولوا قيادة إدارة المخابرات العامة منذ عام 2011، وهي فترة ذروة الانتهاكات، وهم اللواء زهير حمد (2011–2012)، الذي أشرف على بداية آلة القمع ضد المتظاهرين، واللواء محمد ديب زيتون (2013–2019)، الذي قاد الجهاز خلال فترة النزاع الأكثر دموية، حيث توسعت العمليات الأمنية لتشمل إدارة مراكز الاحتجاز والتوجيه المباشر للعمليات، إضافة إلى اللواء حسام محمد لوقا (2020–2024)، الذي أشرف على مرحلة إعادة القبضة الأمنية في المناطق التي استعادها النظام البائد.
وهذه الاستمرارية في القيادة، وخاصة فترة حكم اللواء زيتون الممتدة لسبع سنوات، تدل على أن سياسات القمع كانت استراتيجية متعمدة من أعلى المستويات، ما يرفع منسوب المسؤولية الجنائية والأخلاقية المترتبة على هؤلاء وفق التقرير.
الاستنتاجات القانونية وطريق العدالة
يخلص التقرير إلى أن الانتهاكات المرتكبة في الفرع 300 ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، نظراً لطابعها المنهجي والمتكرر وارتباطها بسياسة دولة استهدفت فئات من السكان المدنيين على نحو واسع ومنظم، وبالتالي، فإن هذه الجرائم
لا تسقط بالتقادم، ويجب محاسبة المسؤولين عنها.
ويؤكد التقرير على مبادئ قانونية أساسية، منها أن الأوامر العليا لا تبرر الانتهاكات الجسيمة، وأن الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب باطلة قانونياً، وأن أي عفو أو مصالحة لا تشمل المحاسبة على هذه الجرائم يتعارض مع الالتزامات الدولية ولا يسقط حق الضحايا في الانصاف.
توصيات نحو مستقبل خالٍ من القمع
بناءً على النتائج السابقة، يقدم التقرير سلسلة من التوصيات الحاسمة الموجهة إلى السلطات السورية والجهات الدولية للمتابعة، أبرزها:
1ـ المساءلة القضائية: ملاحقة جميع ضباط النظام البائد والمسؤولين المتورطين في الانتهاكات، بمن فيهم القادة الثلاثة الذين تولوا رئاسة المخابرات العامة.
2ـ إعادة الهيكلة: إخضاع أي جهاز استخبارات جديد لرقابة برلمانية وقضائية صارمة لضمان عدم تكرار مثل هذه التجاوزات.
3ـ حماية الضحايا والشهود: من خلال توفير برامج حماية شاملة ودعم نفسي وقانوني للناجين وضمان عدم تعرضهم للانتقام.
4ـ الحق في الحقيقة: الحفاظ على أرشيف الفروع الأمنية كدليل على الجرائم، وضمان حق العائلات في معرفة مصير أبنائها المختفين قسراً.
لا يعتبر تقرير الفرع 300 مجرد توثيق لماضٍ دموي، بل هو دعوة مفتوحة لبناء مستقبل مختلف، وتذكير بأن العدالة لا تتحقق إلا بمحاسبة المسؤولين، وبناء أجهزة أمنية تحمي المواطن بدلاً من قمعه، وضمان ألا تُكرر مآسي هذا الفرع الذي عمل في الظلام لسنوات طويلة.
المصدر – سانا




































































