اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢ أيلول ٢٠٢٥
نوال أبو حيدر
في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرُّ بها لبنان، تبرز مشكلة «الفجوة المالية» كواحدة من أبرز مظاهر الانهيار في النظام المصرفي والمالي. تعبّر هذه الفجوة عن الفرق بين موجودات المصارف والتزاماتها تجاه المودعين، حيث تشير التقديرات إلى مبالغ ضخمة تُقدّر بمليارات الدولارات، معظمها يعود إلى تحويلات مصرف لبنان للمصارف التي استخدمت أموال المودعين لدعم الدولة وتمويل سياسات نقدية خاطئة على مدى سنوات.
يأتي مشروع «قانون الفجوة المالية» كخطوة أساسية لتنظيم توزيع الخسائر بين الأطراف المختلفة: الدولة، مصرف لبنان، المصارف، والمودعين. ويهدف القانون إلى توفير إطار قانوني يحدّد المسؤوليات المالية ويوزع الخسائر بطريقة يفترض أن تكون عادلة، تمهيدا لإعادة هيكلة القطاع المصرفي والتعامل مع ديون الدولة.
غير أن المشروع أثار جدلا واسعا، إذ يخشى كثيرون من أن يكون غطاء قانونيا لشطب جزء من ودائع المودعين، خصوصا في ظل غياب خطة واضحة وشفافة، وانعدام الثقة بين المواطنين والمؤسسات السياسية والمالية.
وعلى الرغم من أن الحكومة تسوق القانون كشرط أساسي للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، يحذّر خبراء اقتصاديون وحقوقيون من أن أي نهج يفتقر إلى الشفافية ولا يحترم حقوق المودعين قد يزيد الأزمة تعقيدا. لذلك، هناك مطالب متزايدة بضرورة أن تكون معالجة الفجوة المالية جزءا من خطة شاملة تشمل وقف الهدر، الإصلاح الإداري، المحاسبة، وضمان توزيع عادل للخسائر.
مصرف لبنان وتحدّي الودائع
في هذا السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي عماد الشدياق في حديث خاص لـ «اللواء» أن «المسؤولية الأساسية تقع على عاتق مصرف لبنان وليس الحكومة في المقام الأول، حيث تحتاج الحكومة أولا إلى تشريع قانون يقرّ بواقع الفجوة المالية التي تسبب بها النظام المالي، فيما يجب على مصرف لبنان، بصفته الجهة النقدية المركزية، اتخاذ إجراءات مباشرة للتعامل مع تداعيات هذه الفجوة».
وفي سياق متصل، يرى الشدياق أنه «يُتوقع أن يلجأ مصرف لبنان إلى شطب جزء من الودائع، وهو أمر لا مفر منه في ظل الأوضاع المالية الراهنة، خاصة تلك الودائع التي نشأت عبر وسائل مشبوهة أو غير قانونية، حيث تشير التقديرات إلى أن نسبة كبيرة من الودائع الحالية في المصارف تعود إلى عمليات غير تقليدية مثل تجارة الشيكات وتحويل مبالغ ضخمة من الليرة إلى الدولار بطرق غير مشروعة».
إصلاحات لتخفيف الفجوة!
من جانب آخر، تشير مصادر اقتصادية مطّلعة إلى أن «الحكومة يمكن أن تخفّض الفجوة المالية من خلال تحميل خسائر أكبر للمصارف وإداراتها ومساهميها، بدلا من تحميل المودعين، وتطبيق مبدأ «تحمّل المسؤولية» بشكل عادل وقانوني. كما يمكن استرداد أموال تحوّلت إلى الخارج بطرق غير قانونية أو من خلال استغلال معلومات داخلية. إضافة إلى ذلك، يمكن إعادة تقييم أصول الدولة واستخدامها عبر صندوق سيادي يُسهم في تقليل الفجوة، إلى جانب تحسين النظام الضريبي وزيادة الإيرادات مع تجنّب إثقال كاهل الطبقات الفقيرة والمتوسطة».
في المقابل، يشدّد خبراء اقتصاديون على «ضرورة تحميل المصارف ومساهميها جزءا أكبر من الخسائر، واسترداد الأموال غير الشرعية، بالإضافة إلى وقف الهدر وتنفيذ إصلاحات إدارية وضريبية حقيقية»، معتبرين أن «معالجة الفجوة المالية تتطلب قرارات جريئة، محاسبة المسؤولين، ورؤية اقتصادية شاملة لضمان العدالة واستعادة الثقة في النظام المالي اللبناني».
إدارة الموارد وحماية المواطن
أما على مستوى الدولة، فيؤكد الشدياق أن «المشكلة ليست في نقص الموارد، بل في كيفية إدارتها، حيث تحقق الدولة إيرادات لكنها تعاني من الهدر المستمر. لذلك، المطلوب وقف الهدر وتفعيل إصلاحات إدارية حقيقية، لا سيما تبسيط الإجراءات البيروقراطية التي تُثقل كاهل المواطنين، واعتماد الإدارة الرقمية يمكن أن يسهم في تسهيل المعاملات وتقليص الفساد وتخفيف الأعباء عن المواطنين».
الإصلاح المالي.. خطوات متعثّرة
وعن سياسة الحكومة في مجال التقشف والإصلاح المالي، يشير الشدياق إلى أن «الحكومة لم تبدأ بعد في تطبيق إصلاحات مالية جوهرية، إذ لا تزال معظم الإجراءات في مرحلة التحضير، ولم تصل إلى التنفيذ الفعلي بعد. حتى الآن، اقتصر العمل على إقرار قانون هيكلة المصارف المرتبط بقانون الفجوة المالية الذي لم يصدر بعد، مع تعديل محدود على قانون السرية المصرفية، في حين أن الإصلاح المالي يتطلب خطة شاملة تغطي مختلف جوانب الأزمة».
أين يكمن الحلّ؟
من هنا، يختم الشدياق حديثه بالتأكيد على أن «معالجة الفجوة المالية في لبنان لا يمكن أن تتم دون اتخاذ قرارات جريئة وواضحة لتحميل المسؤوليات، وإعادة بناء الثقة تدريجيا في القطاع المالي. إذ أن المطلوب ليس مجرد تشريع قانون لتوزيع الخسائر، بل اعتماد رؤية اقتصادية شاملة تنهي عهد السياسات العشوائية وتبني نموذجا أكثر عدالة وشفافية. وبدون ذلك، ستبقى القوانين حبرا على ورق، وستظل الفجوة المالية عنوانا مستمرا لانعدام المحاسبة وفشل الدولة في إدارة أزمتها».
في المحصلة، تشكّل معالجة الفجوة المالية في لبنان تحدّيا مركّبا يتطلب تعاونا حقيقيا بين جميع الأطراف المعنية، مع ضرورة الشفافية والمحاسبة العادلة. لا يكفي إصدار القوانين فقط، بل يجب أن تُرافقها إصلاحات اقتصادية وإدارية شاملة توقف الهدر وتعزز الثقة بالمؤسسات المالية. فقط من خلال اتخاذ قرارات جريئة ومسؤولة يمكن للبنان أن يخطو خطوات فعلية نحو استعادة استقراره المالي والاقتصادي، وضمان حماية حقوق المودعين والمواطنين على حد سواء.