اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٢ كانون الثاني ٢٠٢٥
من بعيد، وقبل أن تصل كفاح جعايصة إلى منزلها الواقع بشارع مهيوب في مخيَّم جنين، أشهر عناصر أمن السُّلطة الَّذين احتلُّوا منزلها وحوَّلوه إلى ثكنة عسكريَّة بعد قتلهم نجلها 'يزيد' في بداية حصارهم للمخيَّم قبل 40 يومًا، أسلحتهم تجاهها وصرخوا عليها مطالبينها بالعودة.
ورغم إصرارها على الدُّخول إلى منزلها لأخذ بعض المقتنيات، مؤكِّدةً أنَّها 'صاحبة البيت ومن حقِّها الدُّخول لجلب بعض الأغراض'، إلَّا أنَّ الرَّدَّ كان من فوَّهات البنادق بإطلاق الرَّصاص في الهواء ومحيطها لإبعادها، لتعود إلى مكان نزوحها في مشهد يتجلَّى فيه أسلوب العقاب الجماعيِّ لعائلة الشَّهيد، وللمخيِّم المحاصر من جميع الاتِّجاهات.
حصار شامل
بلا 'كهرباء، أو مياه، أو مدارس'، هذه الجملة التي سمعها أهل المخيم من وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت مع بدء حرب الإبادة ضد قطاع غزة، يعيشون تفاصيلها بأوضاع إنسانية ومأساوية صعبة، لكن بحصار تشنه أجهزة أمن السلطة للمخيم منذ 40 يومًا، تخللها قتل وحملة اعتقالات وإحراق عدد من البيوت، وتخريب خزانات المياه للمواطنين بهدف دفع الأهالي للرحيل عن المخيم، حيث نزح ثلثاهم وفقًا لشهود عيان تحدثوا لصحيفة 'فلسطين'.
إضافة إلى استشهاد يزيد جعايصة، استشهد المواطن محمود الحاج وابنه، وأصيبت ابنته أثناء صعوده على سطح منزله برصاص قناص من أمن السلطة. ومن منزل جعايصة نفسه، الذي تحول إلى ثكنة عسكرية بعد طرد سكانه منه، أطلقت الرصاص على الصحفية شذى الصباغ وهي تحمل طفلًا صغيرًا وتصعد على درج بقالة بيع مواد غذائية أسفل منزلها.
وقالت عائلة الحاج في جنين: 'قناص من أجهزة الأمن التابعة للسلطة كان يتمركز بالجبل المحيط بالمخيم، وقنص المواطن محمود الحاج الجلقموسي (43 عامًا) وابنه قسم الحاج (14 عامًا)، وأصاب ابنته بجراح خطيرة'. وأشارت العائلة إلى أن الأب كان يقوم بتعبئة الماء على سطح المنزل قبل قنصه وابنه.
ثكنة عسكرية
بقلب مكلوم، تروي كفاح جعايصة لصحيفة 'فلسطين' ما حدث: 'ذهبت لجلب أغراض مهمة من بيتي، لكنهم منعوني بالقوة. ومنذ شهر أعيش حياة تشرد بلا أغراض ومقتنيات. لا أفهم كيف يتم منع صاحب البيت من الدخول إلى بيته؟ لا تستطيع إحضار أي ورقة رسمية، تمر من جانبه ولا تستطيع دخوله'.
إلى جانب قتل نجلها 'يزيد' وطردها من منزلها، تزداد أوجاع جعايصة ومعاناتها. توضح بقهر: 'المعاناة في المخيم كبيرة، فلا يوجد نافذة لم يتم إطلاق النار عليها، ولم يبقَ خزان مياه للمواطنين لم يتم استهدافه'. وتعتبر ذلك مخططًا لتهجير المخيم، دفع 'ثلثي المخيم للنزوح'.
وتردف: 'لا يوجد شربة ماء في المخيم'. كما لا تتوقف أصوات إطلاق النار مع ساعات الليل، وكلها تفسرها جعايصة على أنها محاولات لـ'ترهيب الناس'. وتشير إلى إحراق عناصر الأمن عدة منازل للمواطنين بشكل متعمد، واستمرار حصار المخيم من جميع الاتجاهات، بحيث لم يعد هناك أمان للتحرك في المخيم، فأي شخص يتحرك قد يتعرض لإطلاق النار.
ورغم اعتقال السلطة نحو 300 مواطن من المخيم بتهمة الانتماء لفصائل المقاومة، تفند جعايصة تلك الادعاءات، وتؤكد: 'هؤلاء لا يوجد عليهم أي شيء، والهدف من الاعتقال إظهار أنهم فعلوا شيئًا'.
إحراق متعمد
قبل ستة أيام، وأثناء محاولة الحاجة أم خالد السعدي الوصول إلى منزلها الذي حولته عناصر أمن السلطة إلى ثكنة عسكرية، تفاجأت بقيام تلك العناصر بإضرام النار فيه وإحراقه، لتشاهد من بعيد ذكريات عمرها البالغة 46 عامًا تحترق أمام أعينها، بينما تتقد نيران الغضب في قلبها، وواستها دموع الحسرة على وجع لم يكن مصدره الاحتلال هذه المرة.
بصوت تخنقه الدموع، تقول السعدي لصحيفة 'فلسطين': 'كنت أحاول دخول منزلي لإحضار بعض الأغراض مع جارتي، لكن كانت صدمتي كبيرة. أحرقوا قلبي وزادوا حسرتي على بيتي المكون من أربع طبقات، وكان يأوي أربع عائلات. والآن تشردنا ونعيش ثلاثة عشر فردًا في غرفة صغيرة عند ابن شقيقتي. أخرجونا بملابسنا فقط، فليس لدينا إمكانيات لاستئجار شقة بسعر ألفي شيقل شهريًا'.
تظهر مقاطع فيديو وثقها شهود عيان وأفراد العائلة، تعمد عناصر السلطة إحراق ثلاث شقق سكنية بالمنزل، وتصاعد كمية نيران كبيرة من نوافذ المنزل أدت إلى إحراق كافة الأثاث ومقتنيات العائلة، واستمرت من الساعة الحادية عشرة والنصف صباحًا حتى انطفأت النيران من تلقاء نفسها بعدما أصبح المنزل من الداخل متفحمًا.
وترثي السعدي سنوات عمرها التي احترقت أمامها قائلة: 'عشت في المنزل 46 عامًا، بنيناه حجرًا على حجر. لم يحترموا تاريخ العائلة الوطني والنضالي في مواجهة الاحتلال. فابني محمد نادر السعدي أسير لدى الاحتلال إداريًا، وابني الآخر كان قد جهز حديثًا شقته لكنها احترقت بالكامل'.
نزوح وعقاب جماعي
أما أم أحمد، وهي مواطنة بقيت بشارع مهيوب هي وثلاث عائلات أخرى بعد نزوح معظم العائلات التي تسكن الشارع الواقع على أطراف المخيم، فتصف الحياة في المخيم بأنها 'عودة إلى العصر الحجري'.
قبل أيام، وأثناء وقوفها على شرفة منزلها، صرخ أحد عناصر أمن السلطة عليها مطالبًا إياها بالدخول، وعندما رفضت، قاموا بإطلاق الرصاص عليها بهدف تخويفها. كما تمتلئ واجهة بيتها بآثار رصاص كثيف أُطلق عليه، وتكسرت جميع النوافذ، لتعيش هي وأبناؤها في رعب دائم وقلق مستمر.
وتقول أم أحمد، التي طلبت عدم الكشف عن اسمها كاملاً خشية الملاحقة الأمنية لـ'فلسطين': 'تعرضنا لاقتحامات كثيرة من الاحتلال، لكن لم يحدث معنا ما يجري حاليًا من أمن السلطة التي تقوم بخنق المخيم وعقابه جماعيًا. لا نستطيع الخروج من المنزل. يصدق فيهم قول الشاعر: 'وظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضةً على المرء من وقعِ الحسامِ المُهنّدِ'، خاصة أنه لا يوجد أفق للحل'.
ورغم نزوح معظم السكان في الشارع، إلا أن أم أحمد لا تملك مقدرة مالية على النزوح واستئجار بيت خارج المخيم بمبلغ 2000 شيقل شهريًا.
وبفعل الحصار، تحولت مدارس المخيم إلى التعليم الإلكتروني، لكن مع استمرار قطع الكهرباء ومنع أي محاولات لإصلاح المحولات من شركة الكهرباء، يغرق المخيم في ظلام دامس، انقطعت معه شبكة الإنترنت، ما يمنع الأهالي من الدراسة عن بعد. تقول: 'أولادي لا يستطيعون متابعة دراستهم بسبب انعدام الاتصالات والإنترنت'.
أم أحمد، التي عايشت إحراق السلطة لعدة منازل من بينها منزل عائلة 'السعدي'، تلفت إلى أنهم لم يسمحوا للدفاع المدني بإطفاء الحريق، ما أدى إلى توسع الحريق وانتشار الدخان في المكان حتى أصبح المنزل المحروق متفحمًا.
ويرى الكاتب والمحليل السياسي عدنان الصباح أن التداعيات المستقبلية لما يجري في جنين هي الأخطر من حيث الانقسام المجتمعي، وأن العقاب الجماعي يطال الجميع، إذ لم تشهد الحالة الفلسطينية هذه الظروف الاستثنائية في وقت يتعرض لخطر تصفية القضية وإبادة جماعية في غزة وتهجير.
ولا يرى الصباح لـ'فلسطين' أي حلول في الأفق، مع عدم وجود دور من الهيئات ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية أو حراك بمستوى ما يجري في جنين. مؤكدًا أنه مهما كانت الأهداف للاقتحام، فلا يوجد منتصر، فلا يمكن أن ينتصر الفلسطيني على الفلسطيني في ظل وجود احتلال للأرض.