اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢٩ أب ٢٠٢٥
الكاتب:
الدكتور حازم عبد الحليم شاور التميمي
في زمنٍ يتسابق فيه العالم على الابتكار والتطور، بدافع زيادة الإنتاج وتسهيل الإنتاجية، يلوح سؤال مقلق في الأفق: ماذا إذا تجاوز التطور حدود الحاجة الفعلية للإنسان والمجتمع؟
هذه الحالة التي يمكن تسميتها 'فائض الكفاءة' تمثل اللحظة التي يتحول فيها التطور من أداةٍ لخدمة الإنسان إلى عبءٍ عليه، حيث يزيد المعروض من السلع والخدمات والتقنيات عن حاجات الناس الحقيقية.
حين يصبح التطور عبئًا تتجلى مظاهر فائض الكفاءة في العديد من مناحي الحياة اليومية:
الهواتف الذكية التي تتجدد كل عام بإمكانات مذهلة، بينما لا يستخدم أغلبنا سوى جزء يسير منها.
خطوط الإنتاج التي تضاعف الإنتاج إلى مستويات تفوق قدرة الأسواق على الاستيعاب، فتتولد أزمات فائض وركود.
الذكاء الاصطناعي الذي يركض أسرع من قدرة المؤسسات على استيعابه وتطبيقه عمليًا.
وهذا الفائض لا يقف عند حدّ الوفرة الزائدة، بل يتحول إلى عبء متشعب بأبعاد متعددة:
اقتصاديًا: انخفاض الأسعار بشكل مبالغ فيه، خسائر للشركات، بطالة نتيجة إغلاق خطوط إنتاج أو تراجع الأسواق.
اجتماعيًا: اتساع الفجوة بين القادرين على مجاراة التطور ومن لا يستطيعون، مما يولّد شعورًا بالحرمان والتهميش.
بيئيًا: تضخم حجم النفايات التقنية، واستنزاف الموارد الطبيعية بوتيرة أسرع من قدرة البيئة على التعافي.
نفسيًا: إرهاق الأفراد أمام ضغط التكيّف المستمر مع الجديد، والشعور بعدم جدوى ما لديهم أمام سيل الابتكارات المتلاحقة.
ولعل ما تنبّه له الاقتصادي روبرت سولوا منذ عام 1987 فيما عُرف بـ مفارقة الإنتاجية يؤكد هذا المعنى حين قال:'يمكنك أن ترى عصر الحاسوب في كل مكان، ما عدا في إحصاءات الإنتاجية.'
كما حذّر ويليام جيفونز قبل أكثر من قرن ونصف من أن تحسين الكفاءة قد يقود إلى نتيجة عكسية، حيث يزيد الاستهلاك بدلاً من أن يقل، فيما بات يُعرف بـ مفارقة جيفونز.
البحث عن نقطة التوازن
للتغلب على هذا التحدي، يجب السعي نحو 'نقطة التوازن'، وهي المرحلة التي يتساوى فيها التطور التكنولوجي مع احتياجات المجتمع الفعلية, ويمكن تلخيص المعادلة كالتالي:
إذا كانت سرعة التطور أكبر من قدرة الاستيعاب نقع في فائض الكفاءة.
إذا كانت أبطأ من الحاجة نقع في التخلف والجمود.
إذا تساوتا نصل إلى نقطة التوازن المثالية.
وقد عبّر الاقتصادي البيئي هيرمان دالي عن هذه الفكرة من زاوية أخرى حين تحدث عن النمو غير الاقتصادي، موضحًا أن: 'هناك لحظة يصبح فيها المزيد من النمو سببًا في تراجع جودة الحياة، لأن تكاليفه الاجتماعية والبيئية تفوق منافعه.'
مسؤولية صناع القرار من وجهة نظري :
وهنا تقع على عاتق الحكومات والقطاع الخاص ومراكز البحث مسؤولية توجيه الابتكار بما يخدم الإنسانية : من خلال توجيه الابتكار نحو الحاجة الفعلية، لا مجرد السباق الاستعراضي, وكذلك بإعادة توزيع فائض الكفاءة عالميًا عبر نقل التكنولوجيا لمجتمعات ما زالت تعاني نقصًا حادًا , ومن خلال سنّ تشريعات ذكية تضبط عمر المنتجات وتشجع على الصيانة والتدوير وربط الجدوى التقنية بالبعد الإنساني بحيث يُقاس النجاح بالأثر الاجتماعي والبيئي، وليس بالربح فقط.
الدروس المستفادة في السياق الفلسطيني
رغم غزارة الأدبيات الفلسطينية في الاقتصاد والتنمية، لم يُطرح مفهوم فائض الكفاءة بصورة مباشرة , لكن هناك إشارات مهمة يمكن البناء عليها:
في مذكراته، أشار الاقتصادي الفلسطيني يوسف صايغ إلى أن النكبة وما تلاها من سياسات حالت دون استفادة الفلسطينيين من طاقاتهم وكفاءاتهم المتراكمة، مما أدى إلى ضياع فرص تنموية كان يمكن أن تغيّر وجه الاقتصاد الفلسطيني (صايغ، مذكرات يوسف صايغ: صفحات من حياتي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016 ).
تقارير الإسكوا (ESCWA) حول الاقتصاد الفلسطيني شدّدت على أن التبعية للاقتصاد الإسرائيلي خلقت فجوة هيكلية، منعت تحويل الطاقات المحلية إلى إنتاج متوازن ومستدام.
دراسات المجتمع المدني الفلسطيني بيّنت أن غياب آليات توزيع منصف للموارد يولّد فجوات بين الاحتياج الفعلي وما يُنتج أو يُموَّل.
توصيات فلسطينية متسقة:
تحويل فائض الكفاءات البشرية إلى قوة إنتاجية: عبر برامج وطنية تربط الكفاءات العلمية الفلسطينية في الداخل والشتات بالمشاريع الاقتصادية المحلية.
منع تضخم التطور غير المجدي: وضع سياسات ذكية تحكم استيراد وتطبيق التكنولوجيا بما يتناسب مع حاجة السوق الفلسطيني.
إعادة توزيع الموارد داخليًا: نقل التكنولوجيا والمعرفة إلى المناطق المهمشة (الأغوار، غزة، الأرياف) لتقليص الفجوة التنموية.
ربط الابتكار بالاستدامة: قياس أي مشروع تطويري بمعايير الحاجة الفعلية، الجدوى الاقتصادية، والجدوى الاجتماعية.
نحو اقتصاد أكثر إنسانية
لقد نبّه باحثون معاصرون مثل فينسل وراسل في كتابهما 'وهم الابتكار' (The Innovation Delusion) إلى أن 'التركيز على الجديد قد يجعلنا نهمل صيانة ما نملك'، وهو تذكير بضرورة العودة إلى جوهر الغاية من كل تطور: تحسين حياة الإنسان لا إغراقه بالوفرة الزائدة.
خاتمة
إن فائض الكفاءة ليس نصرًا حضاريًا بقدر ما هو إنذار مبكر. أما نقطة التوازن، فهي ليست قيدًا على الإبداع، بل ضمان لاستدامته.
والسؤال الذي يبقى مطروحًا: هل نملك الجرأة على إبطاء خطواتنا قليلًا، لنتأكد أن التطور يبقى في خدمة الإنسان… لا العكس؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السيرة العلمية والعملية للباحث :
الدكتور حازم عبد الحليم شاور التميمي، طبيب بيطري ورجل أعمال فلسطيني وباحث في ريادة الأعمال.
المناصب التي شغلها :
شغل منصب رئيس نقابة الأطباء البيطريين – مركز القدس (2012–2015)، كما عمل أمين سر ملتقى رجال الأعمال الفلسطيني (2020–2024)، وشغل منصب الرئيس الفخري لفريق الفدائي للدفع الرباعي – الخليل (2019–2021) .
أتمّ رسالة الماجستير في ريادة الأعمال بجامعة فلسطين الأهلية عام 2025، حيث تناولت رسالته موضوع الحوكمة العاطفية في الشركات الأسرية ودورها في استدامة تعاقب الأجيال.
وتتوزع اهتماماته البحثية بين حوكمة الشركات العائلية، رأس المال النفسي والاجتماعي، التنمية المستدامة، وإطار فائض الكفاءة ونقطة التوازن.
إلى جانب نشاطه الأكاديمي، ساهم في دعم مبادرات مجتمعية متعدّدة، منها الأبحاث البيطرية والأيام الطبية المجانية في الخليل، جامعًا بين الدور الأكاديمي والقيادة الاقتصادية والتنمية المجتمعية.