اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
لم يكن بيان حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ردًّا انفعاليّاً أو تكراراً لمواقف سابقة، بل جاء في توقيت محسوب بذكاء سياسي وبصياغةٍ تعكس نضجاً في أدوات الخطاب السياسي، وبراعة في إدارة التوازنات المعقدة على المستويين الداخلي والخارجي، فالبيان بدا كأنه خطابٌ مركّب موجّه إلى أربع ساحات في آنٍ واحد: الشعب الفلسطيني، الفصائل الوطنية، الرأي العام العربي والإسلامي، وأخيراً المجتمع الدولي ودوائر صُنّاع القرار فيه.
هذا التوزيع المقصود للرسائل لم يكن تفصيلاً شكليّاً، بل جوهر المعركة السياسية الراهنة؛ إذ تدرك حماس أن إفشال مشروع تصفية القضية الفلسطينية لن يتحقق ببيانات صاخبة أو شعارات مرتفعة السقف، وإنما عبر تغيير قواعد الاشتباك السياسي: نزع الغطاء الأخلاقي عن الاحتلال، وتفكيك أوهام صفقة ترمب أمام الحلفاء والخصوم على حدّ سواء.
1. ذكاء الخطاب وتعدّد الرسائل:
حافظ البيان على سقف وطني عالٍ رافضٍ لخطة ترامب دون تقديم أي تنازل يمكن أن يُفسَّر لاحقاً كقبول ضمني أو استعداداً للتنازل عن الثوابت، وفي الوقت ذاته قدّم لهجة عقلانية تُظهر الحركة كفاعل سياسي مسؤول وليس كطرف جامح، ما يعزّز شرعيتها أمام العواصم الإقليمية والدولية، كما أنّ البيان لم ينزلق إلى لغة الاستفزاز أو المزايدة، بل اختار الهدوء الماكر الذي يُربك خصومه، خصوصاً نتنياهو الذي راهن على ردود غاضبة تُبرّر قمع المقاومة.
الأهم أن البيان تجنّب فخّ الاستفزاز والمزايدة الخطابية التي أراد نتنياهو استدراج حماس إليها لتبرير قمع المقاومة وتحميلها وزر إفشال الخطة، فاختارت الحركة هدوءً ماكراً يربك خصومها ويقطع الطريق أمام الحملات الدعائية الصهيونية، ويمثّل هذا النوع من الخطاب ما يمكن تسميته بالردع الخطابي؛ أي بناء موقفٍ سياسيٍّ متين عبر اللغة لا يقلّ تأثيراً عن الردع العسكري في كبح اندفاع الخصم، فلغة البيان لم تكن دفاعية ولا متوسّلة، بل أظهرت أن رفض الصفقة هو موقف مبدئي مستند إلى الشرعية الدولية، ما يحوّل الطاولة على نتنياهو ويجعله هو الطرف المعرقل للحلول.
بهذا النهج، أفلحت حماس في هندسة رسائل متعدّدة الطبقات: رسالة طمأنة للداخل الفلسطيني أنّ الثوابت غير قابلة للمساومة، وإشارة تطمين للعواصم الإقليمية بأن الحركة لا تبحث عن صدام مجاني، وإيصال رسالة إلى القوى الدولية بأن رفض الصفقة لا يعني رفض السياسة ذاتها بل رفض منطق الابتزاز الأمريكي-الصهيوني، هذه القدرة على تفكيك الخطاب وإعادة تركيبه بما يناسب كل جمهور تعكس نضجاً سياسيّاً وحسّاً استراتيجيّاً يثبت أنّ حماس باتت تُدرك أنّ معركة المعاني لا تقلّ خطورة عن معركة الميدان
2. رسالة إلى نتنياهو: إسقاط الرهان على الانقسام
لم يكتفِ البيان برفض الخطة الأمريكية، بل انطوى على تفكيكٍ ذكيٍّ لرهان نتنياهو القديم وهو استثمار الانقسام الفلسطيني كمدخلٍ لتمرير مشاريع التسوية المفروضة، فقد جاء توقيت البيان ولغته ليؤكّدا أنّ حماس لن تُستدرَج إلى معارك جانبية تعيد إنتاج الانقسام أو تمنح الاحتلال مبرّراً لتعليق فشل الصفقة على خلافات الداخل.
الرسالة الأهم التي حمَلها البيان هي أنّ أيّ تسوية سياسية لن ترى النور من دون توافق وطني جامع، وبذلك أعاد تثبيت معادلةٍ غابت طويلاً بفعل سنوات الانقسام: أنّ الشرعية الحقيقية لأيّ اتفاق لا تُستمدّ من مصادقة عواصم الغرب أو توقيعات الوسطاء، بل من الإجماع الفلسطيني المقاوم.
لقد نجح البيان في تحويل الانقسام –الذي طالما استثمره نتنياهو كأداة تفتيت– إلى مأزق سياسي للأخير نفسه، حين ذكّره بأنّ رهانه على فرز فلسطينيين إلى واقعيين ورافضين قد سقط، وأنّ محاولة تجاوز إرادة شعبٍ بأكمله ستظلّ تصطدم بجدار وطنيّ صلب غير قابل للاختراق.
من زاوية أخرى يمكن القول إن البيان مارس نوعاً من الردع السياسي لنتنياهو، إذ أرسل إشارة واضحة بأنّ حماس لا تسعى لتقويض أيّ مسار وطني مشترك، بل تقدّم نفسها شريكاً في صياغة الإجماع الفلسطيني لا خصماً له، هذا الموقف يُحرج الاحتلال أمام المجتمع الدولي ويُظهِره كطرف يصرّ على تقسيم الفلسطينيين لإدامة مشروعه الاستيطاني.
وبهذه الرسالة المزدوجة –رفض الانقسام ودعوة للوحدة– استطاعت حماس أن تنقل عبء الأزمة إلى معسكر الاحتلال بدل أن تبقى أسيرة الانقسامات الداخلية، لتؤكّد أنّ الصفقة لا تسقط بالرفض المجرد فقط، بل بتحويل لحظة الرفض إلى نقطة التقاء وطني تعيد تعريف قواعد اللعبة مع العدو.
3. الذكاء في إدارة التناقضات الدولية:
البيان قدّم رفضاً سياسيّاً للخطة من موقع المدافع عن القانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني، وليس من موقع أيديولوجي ضيّق، وبهذه اللغة تُحرج حماس بعض القوى الغربية التي تسوّق للخطة بذريعة الواقعية السياسية، وتُعيد تعريف المقاومة كحق مشروع ضد الاحتلال، وأما الرسالة الموجّهة للمجتمع الدولي فجاءت بلغةٍ محسوبة تتوسّل مرجعيات القانون الدولي، لتفنيد ادعاءات الصفقة بوصفها تجاوزاً فجّاً لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
هذا الخطاب الذي يضع الاحتلال في خانة المعتدي على الشرعية الدولية، لا يتيح لنتنياهو وحلفائه أن يقدّموا أنفسهم كصنّاع سلام، بل يفضحهم كمن يسعى إلى تجريف النظام الدولي من الداخل لصالح هيمنة القوة العارية، وبهذه الصياغة حاولت حماس أن تُعيد تعريف نفسها أمام العواصم الغربية لا كحركة رافضة للسلام، بل كطرفٍ يسعى إلى حماية القانون الدولي من الانتقائية الأمريكية.
4. رسالة للعرب والمسلمين: فضح هندسة الإكراه الإقليمي
لم يكن خطاب حماس إلى المحيط العربي والإسلامي عاطفيّاً تقليديّاً أو مجرّد استدعاء لشعارات الوحدة الدينية، بل جاء بمثابة عملية كشفٍ سياسيٍّ ممنهجة لما يمكن تسميته بهندسة الإكراه الإقليمي؛ تلك المنظومة التي سعت بعض العواصم من خلالها إلى جرّ المنطقة، رسميّاً وإعلاميّاً، نحو قبول صفقة ترامب باعتبارها قدراً سياسيّاً لا فكاك منه.
البيان أشار ضمنيّاً إلى هذه المنظومة من دون أن يدخل في معركة تسمية الدول أو فضحها صراحة، إذ فضّل سياسة الإيحاء لا التصادم، بما يحفظ له القدرة على التواصل مع الشعوب ويُبقي خطوط الحوار مفتوحة مع الأنظمة المتردّدة أو القابلة للمراجعة، وهذا التوازن بين فضح المنهج وكتمان الأسماء أتاح لحماس أن ترفع السقف الأخلاقي للنقاش دون أن تُغلق الأبواب أمام احتمالات إعادة التموضع الإقليمي مستقبلاً.
كما أعاد البيان التأكيد على أنّ القضية الفلسطينية ليست عبئاً عربيّاً بل معيار كرامة وسيادة، واضعاً الجماهير أمام مسؤوليتها التاريخية: فالتطبيع مع الاحتلال ليس خياراً سياديّاً حرّاً لتلك الأنظمة بل خضوع لإكراه جيوسياسي فرضته الضغوط الأمريكية والصهيونية، الأمر الذي يستدعي مقاومة شعبية وثقافية لا تقلّ أهمية عن المقاومة العسكرية.
بهذا الخطاب حرّكت حماس مخزون الذاكرة الكلية للأمة، فأعادت التذكير بأن فلسطين كانت وما تزال البوصلة الأخلاقية والسياسية التي تقاس بها شرعية المواقف، وأن أيّ اصطفاف مع مشاريع تصفية القضية هو اصطفاف ضد الإرادة التاريخية لشعوب المنطقة، ويُحسب للحركة أنّها تفادت الوقوع في فخّ شيطنة الأنظمة مجتمعة أو تحميلها كامل المسؤولية، واكتفت بتسليط الضوء على الخطر الأخلاقي والسياسي للتطبيع المجاني، في محاولة لعزل المطبّعين وإبقاء الأفق مفتوحاً لاستنهاض الممانعة داخل المجتمعات نفسها، لقد كان البيان بذلك نداءً للضمير العربي والإسلامي، لا عتاباً سياسياً عابراً، ورسالة بأن معركة فلسطين هي اختبارٌ للهوية والكرامة قبل أن تكون خلافاً على خرائط وحدود.
5. البعد الصادم لنتنياهو:
لم يكن وقع البيان على نتنياهو مجرّد خيبة أمل سياسية، بل شكّل صدمة استراتيجية أفسدت عليه المسرح الذي أعدّه بعناية لتمرير خطته، فقد راهن نتنياهو على أن يجرّ حماس إلى خطاب ناري متشنّج يمنحه الذريعة المطلوبة ليقدّمها أمام العالم باعتبارها العقبة المزمنة أمام أيّ تسوية، ويبرّر استمرار حصارها السياسي والعسكري.
غير أنّ البيان أتى على النقيض تماماً من هذا السيناريو؛ إذ اختار لغة عقلانية صارمة تجمع بين التمسّك بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وبين استدعاء مرجعيات القانون الدولي، ما أفقد نتنياهو فرصة تصوير المقاومة كجهة ترفض السلام لمجرّد الرفض، بهذه المقاربة، الذكاء في البيان أنه جعل نتنياهو هو الطرف الذي يتهرّب من أيّ حلّ عادل، ويصرّ على تصفية القضية تحت مظلة القوة والابتزاز، كما أنّ الأكثر إرباكاً لرئيس حكومة الاحتلال أنّ البيان حاصر روايته في زاويتين متناقضتين:
• فمن ناحية، سحب من يده ورقة الشيطنة الدبلوماسية التي طالما استخدمها لتبرير عزلة حماس، إذ ظهرت الحركة في البيان كفاعل سياسي عقلاني، يرفض الإملاءات لكنه يقف على أرضية قانونية وأخلاقية.
• ومن ناحية أخرى، كشف البيان هشاشة مشروعه السياسي، حين أبان أنّ الخطة الأمريكية ليست عرض سلام بقدر ما هي مشروع ضمّ مقنّع، وأنّ أيّ رفض لها هو رفض للابتزاز لا للسلام.
هذه الإزاحة في الصورة الذهنية أربكت نتنياهو أمام حلفائه الغربيين، وأضعفت أدواته في حشد الدعم الدولي لعزل حماس، إذ بدت الحركة في خطابها الأخير أقرب إلى موقع المدافع عن الشرعية الدولية منه إلى فصيلٍ مسلّح خارج المنظومة السياسية.
يمكن القول إن حماس بهذا البيان نجحت في قلب الطاولة الخطابية على نتنياهو: حوّلته من بطلٍ مزعوم للسلام التاريخي إلى زعيمٍ يتجاهل القانون الدولي ويتفادى أيّ حلّ منصف، لقد كان ذلك البعد الصادم هو الضربة الأكثر إيلاماً لمشروع نتنياهو، لأنه استهدف صورة الزعامة المعتدلة التي حاول ترويجها، وكشف أمام العالم أنّ الخطر الحقيقي على السلام ليس المقاومة، بل منظومة الاحتلال التي تريد سلاماً بلا عدالة.
الخلاصة:
يكشف البيان عن تحوّلٍ ناضجٍ وعميق في أدوات الخطاب السياسي لحماس؛ إذ لم يكتفِ برفع لواء الرفض المبدئي، بل قدّم نموذجاً لِما يمكن تسميته بالممانعة الدبلوماسية: خطاب يوازن بدقّة بين التمسّك بالثوابت الوطنية واستيعاب قواعد اللعبة الدولية، فهذه القدرة على الجمع بين صلابة الموقف ومرونة الأدوات جعلت البيان أكثر إقناعاً وأوسع تأثيراً في الداخل والخارج.
بهذا الخطاب وُضِع نتنياهو أمام معادلةٍ حرجة: إمّا أن يواجه رفضاً فلسطينيّاً متماسكاً ومسنوداً بشرعية قانونية وأخلاقية، أو أن يظهر أمام المجتمع الدولي بصفته المعرقل الحقيقي لأيّ تسوية عادلة، وهو موقع لطالما حاول الإفلات منه.
أهمية البيان لا تكمن في لغته الهادئة فحسب، بل في أنّه دشّن مرحلة جديدة من توظيف السرديّة الفلسطينية كسلاح استراتيجي يُكمل أدوات المقاومة الميدانية، ويعيد تعريف الصراع في نظر الرأي العام العالمي باعتباره معركة حقوق لا نزاع حدود.
لقد أثبتت حماس أنّ المعركة مع الاحتلال لا تُحسم بالرصاص وحده، بل بقدرة الفلسطينيين على تفكيك بنية الرواية الصهيونية وتشييد خطاب مضاد يفضح مشاريع التصفية ويعيد تعريف العدالة بوصفها شرطًا لأيّ سلام حقيقي.
وبذلك، يمكن القول إن البيان لم يكن مجرد ردٍّ على خطة ترامب، بل كان بيان موقفٍ وبيان مرحلة، يُمهّد لتحوّل نوعي في كيفية إدارة الاشتباك السياسي مع الاحتلال وأعوانه الإقليميين والدوليين.