اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة شهاب للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٩ أب ٢٠٢٥
تقرير – شهاب
رغم القصف المستمر الذي لم يُبقِ حجرًا على حجر، والدمار الشامل والإبادة الجماعية المتواصلة، والجوع الذي ينهش الأجساد، يرفض أهالي مدينة غزة النزوح نحو جنوب القطاع، متمسكين بما تبقى من منازلهم وذكرياتهم، متحدّين محاولات الاحتلال الإسرائيلي لفرض واقع جديد.
ويعتبر الغزيون أن النزوح المتكرر لا يحميهم من الخطر، بل قد يعرّضهم له أكثر، خصوصًا في ظل استهداف الاحتلال المتكرر لمناطق سبق أن صنّفها بنفسه كمناطق 'آمنة'، في تأكيد على حالة التحدي والصمود التي يعيشها الفلسطينيون.
لكن الواقع الإنساني والاقتصادي يجعل هذا الخيار شبه مستحيل، إذ إن جنوب القطاع لم يعد قادرًا على استيعاب أكثر من مليون نازح يعيشون في خيام مكتظة، وسط نقص حاد في الغذاء والماء والدواء.
وانطلاقًا من هذه المعطيات، وبين الجوع والحصار وانعدام الأمان، يبقى النزوح خيارًا قاتلًا أكثر منه منقذًا، فيما يصر الغزيون على البقاء في بيوتهم المدمرة، لأن الجنوب لم يعد يملك متسعًا، ولأن الرحيل يعني النكبة مرة أخرى.
ويؤكد الغزيون أنهم لن يغادروا أرضهم إلا للسماء، ويصرون على البقاء حتى لو لم يبقَ فيها سوى رماد البيوت، مشددين على أن الموت على الأرض كرامة، أما الرحيل فهو نكبة جديدة لن يقبلوها.
تحدثت وكالة 'شهاب' للأنباء مع عدد من المواطنين الفلسطينيين المقيمين داخل المدينة المحاصرة، والتي تتعرض منذ أسابيع لهدم وتدمير ممنهج وقصف وقتل متواصل، وهذه شهاداتهم وحكاياتهم المعبرة عن إرادتهم التي لا تنكسر من قلب الركام.
'لن نغادر إلا للسماء'
أم أحمد (50 عامًا)، من حي الرمال غرب مدينة غزة، تقف أمام ما تبقى من منزلها وتقول بصوت يختلط بالدموع: 'بيتي صار ركامًا، لكن هذا الركام حياتي، هنا ولدت أولادي، وهنا دفنت أبي وأمي.. يقولون: انزلوا للجنوب، لكن الجنوب ليس لي.. الموت هنا أرحم من حياة التيه'.
أما الشاب محمد عوض (27 عامًا)، من البلدة القديمة بمدينة غزة، يشاركها الشعور ذاته، ويقول: 'أعرف أن القصف يقترب، وأعرف أن البقاء خطر، لكن لو خرجت اليوم، لن أعود أبدًا.. هذه ليست حربًا فقط، هذه خطة لاقتلاعنا من جذورنا.. أُقسم أنني لن أكرر النكبة مرة أخرى'.
ورغم الخوف الذي يعيشه الأطفال، فإن بعضهم يدرك معنى التهجير، حيث تقول الطفلة ليان حرزالله (12 عامًا): 'ماما قالت لي لو رحلنا، يمكن ما نرجع.. قلت لها ما بدي أترك غرفتي.. بدي أبقى هون'.
وفي مخيم الشاطئ غرب المدينة، يرفض الحاج أبو حسن (75 عامًا) أن يعيش النكبة مرة أخرى، ويقول: 'أنا خرجت مرة عام 48، ولن أكررها.. هذه الأرض قبري وحياتي سأبقى حتى آخر نفس'.
حتى من فقدوا كل شيء يصرّون على البقاء، الشابة سلمى أبو ريالة، التي فقدت زوجها وأصيبت في إحدى الغارات، تقول: 'أخذوا بيتي وزوجي، شو ظل لي غير هالخيمة؟ لو خرجت، بموت ألف مرة.. بغزة بموت مرة وبكرامة'.
أما الصياد محمود بكر الذي عاش حياته على شاطئ غزة، فيختصر قراره بكلمات قليلة: 'أنا ابن البحر، وين أروح؟ البحر هو حياتي، رزقي، ذكرياتي. حتى لو صار أحمر من الدم، بدي أظل جنبه'.
وفي وسط الركام، يؤكد الطالب الجامعي خالد الأخرس، أنه لن يكرر تجربة النزوح مرة أخرى: 'أريد أن أعيش وأتعلم، لكنني أعرف أن النزوح يعني النهاية.. إذا خرجنا لن نرجع.. لذلك مهما حصل، سأبقى هنا'.
المهمة المستحيلة
وروت سيدة من غزة أنّ مجرد التنقل داخل القطاع تحول إلى 'مهمة شبه مستحيلة'، موضحة: 'إحضار عربة يجرها حمار أو توك توك يكلف على الأقل ألف دولار. لا أستطيع أن أتخيل عائلة قادرة على دفع هذه المبالغ. أحياناً نفضّل النوم بين الركام أو على الطرقات، لأنه ليس لدينا مكان نذهب إليه'.
كما قالت السيدة أم محمد، أم لخمسة أطفال، تجلس قرب أنقاض منزلها في حي الشيخ رضوان، تقول بصوت يائس: 'بيقولوا لنا اطلعوا على الجنوب، طب كيف؟ معناش ولا شي. إذا بدنا نمشي لازم مصاري، لازم أكل لأولادي، وما عنا. حتى لو وصلنا هناك، شو رح نلاقي؟ الطوابير أطول من النهار، واللقمة صارت حلم'.
أما أبو علي، سائق يومي فقد مصدر رزقه منذ بداية الحرب، يضيف: 'زمان كنت أشتغل يومي وأجيب خبز لولادي واليوم ما في شغل، ولا مصاري، ولا حتى خبزة.. بيقولوا انزح للجنوب، طب كيف؟ لو معي حق الطريق، ما معي حق خبزة.. بنموت هون أشرف لنا من الموت بالطريق'.
وفي الجنوب، الأوضاع ليست أفضل حالًا، حيث يضيق المكان بأكثر من مليون نازح يعيشون في مدارس وخيام مؤقتة. ليلى، أم لثلاثة أطفال، تقول وهي في طابور المياه: 'من الفجر بصحى وبأقف في الطابور عشان أعبي قلن المية الصالحة للشرب لتكفينا اليوم، ولسه ما أجت شاحنة المية وما أخدت.. وبيقولوا انزحوا؟ والله الموت أهون من هالذل'.
كما أن الأرقام الدولية تشير إلى أن الجنوب لم يعد قادرًا على استيعاب المزيد من النازحين، حيث يعيش عشرات الآلاف في أوضاع إنسانية قاسية، بلا مياه كافية ولا طعام، فيما تحذر منظمات الإغاثة من خطر المجاعة المتفشية.
وفي ذات السياق، حذّر نزار عياش، رئيس بلدية دير البلح، من أنّ المحافظة الوسطى تقف على حافة الانهيار حيث 'لا توجد مساحة واحدة قادرة على استيعاب أي خيمة نزوح جديدة، فالساحل مكتظ، الشرق تحت القصف، والبنية التحتية منهارة، ومحطة التحلية بالكاد تعمل'، مؤكدًا على أن الضغط المتواصل على هذه المنطقة ينذر بكارثة إنسانية إذا استمر النزوح إليها.
أما في خانيونس، فأوضح سلامة شراب، مدير إمداد المياه في البلدية، أنّ ما يُضخ يومياً لا يتجاوز 8–10 آلاف كوب، في حين يتطلب الوضع أكثر من 15 ألف كوب، بحيث يحصل الفرد بالكاد على 3–4 أكواب مياه فقط يومياً، مؤكداً أنّ استمرار هذا الوضع 'مرشّح لانهيار صحي كارثي'.
كما أكدت تقارير المنظمات الإنسانية أنّ إخلاء غزة سيؤدي إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، لأن السكان مرهقون أصلاً من نزوح متكرر منذ بداية الحرب، والأغلبية الساحقة فقدت القدرة المادية والجسدية والنفسية على النزوح مرة أخرى، في وقت تتواصل فيه عمليات القصف والإبادة.
ونقلاً عن إفادات جمعتها 'هآرتس' من السكان كشفت أنّ النزوح نفسه أصبح ثقل لا يمكن تحمله، فثمن الخيمة وحدها يتراوح بين 4,500 و5,000 شيكل، بينما تكاليف المواصلات تصل إلى 2,000 شيكل، وقد تبلغ 1,000 دولار. وبالمجمل، تحتاج العائلة نحو 12,500 شيكل لتتمكن من الانتقال من المدينة إلى الجنوب، وهو مبلغ يعجز عنه معظم سكان القطاع.
هذه الشهادات تجسّد حقيقة النزوح في غزة، ولم يعد مجرد انتقال من بيت إلى خيمة، بل رحلة معاناة مرعبة، يختلط فيها الخوف من القصف مع شبح العطش والجوع والمرض، إضافة إلى استنزاف مالي لا قبل للسكان به.