إلى مَن بأيديهم الختم والقرار لا ترسموا البحر بمداد الصفقات

إلى الرئاسات اللبنانية الثلاث،

إلى من يقفون على عتبات القرار، وفي أيديهم خرائط الوطن وحدوده، في ظلّ الحركة الديبلوماسية المستجدة في شأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وجمهورية قبرص والجمهورية العربية السورية، ومن منطلق المسؤولية الوطنية والقانونية، أتوجّه إليكم بهذه الرسالة المفتوحة، مستندة إلى المبادئ التي أكّدها فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في خطاب القَسَم، عندما قال: «لا حماية للسيادة من دون محاسبة، ولا بناء للدولة من دون عدالة». فلتكن هذه الكلمات مبدأ يُكتب في خرائط المصير ونبراسًا لنا في مسار العدالة، لا مجرد شعار يُقال في المناسبات.

أيها السادة،

عندما تضعون القلم على خرائط البحر، تذكّروا أنّ لكل نقطة تاريخًا، وأنّ كل خط حدود هو أكثر من مجرد جغرافيا؛ هو حدّ سيادي، حقوقي، وقانوني. في البحر، تُرسم السيادة بحبر لا يُمحى مع الأمواج، والتاريخ لا يغفر أخطاء الترسيم، لأنّ الخرائط لا تُمحى، بل تعود لتطالبنا بها. السيادة ليست صفقة، بل حق. فلنجعل هذا العهد بدايةً لمسار عدالة يعيد الاعتبار للقانون ويستردّ ما فقدناه حين رسمنا البحر بالحبر نفسه مرّتين.

في عام 2007، وقّع لبنان اتفاقًا مع قبرص لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. كان الاتفاق بمثابة «خطف في ليل»، تمّ على أساس مسودة حُرّرت في يومين من دون أن تُناقش، ولم تمرّ عبر مؤسسات الدولة الدستورية، وقّع على عجل على يد حكومة منقوصة، كانت شرعيتها الدستورية مشكوكًا فيها بعدما استقال ستة من وزرائها آنذاك. النتيجة؟ خسارة 2643.85 كيلومترًا مربعًا من مياهنا. لقد أُغلقت صفحة هذا الاتفاق في الظلّ وحُفظت في الأدراج، ليتمّ فتحها مجددًا حين وقّعت قبرص اتفاقًا منفردًا مع العدو الإسرائيلي عام 2010، مستندة إلى ما لم يُقرّ، وما لم يُجز، وما لم يُحاسب عليه أحد.

أما في العام 2022، فالتنازل جاء صادمًا، مؤلمًا. كُفّت يد الجيش اللبناني، المؤسسة الوحيدة التي تعرف شكل البحر، وتقرأ خطوطه. تمّ سحب صوته من طاولة التفاوض، وأُودعت خرائطه وأسانيده القانونية في الأدراج. هذا التنازل غير المبرّر شهدنا من خلاله اتفاقًا على المنطقة الاقتصادية الخالصة الجنوبية مع العدو الإسرائيلي، وهو اتفاق يناقض المصلحة الوطنية ويجحف بحقوق لبنان في ثرواته السيادية. بل والأدهى من ذلك، فُصلت منطقة «الطفافات» عن البحر ونُقلت إلى ملف البرّ، لتصبح نقطة نزاع، بعدما كانت ثابتة للبنان في ملف الترسيم البري. سكت القانون، وخرست المراسيم، ولم يُعرض الاتفاق على مجلس النواب حتى اليوم لإقراره أو تعديله أو رفضه وفقًا للمادة 52 من الدستور اللبناني، وكأنّ السيادة تُحفظ في الأدراج، لا في الدستور. لذا، نطالبكم اليوم من منطلق الدستور بالوقوف وقفة رجال دولة بغية:

1- فتح تحقيق قانوني شفاف في اتفاق العام 2007 مع قبرص، ومساءلة كل من فاوض ووقّع وأخفى، والإعلان رسمًيا عن عدم نفاذ الاتفاق لمخالفته المادة 52 من الدستور اللبناني.

2- عرض اتفاق ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة الجنوبية مع العدو الإسرائيلي على مجلس النواب، لمناقشته ومقاربته لحقوق لبنان.

3- تشكيل لجنة وطنية عليا للتفاوض، برئاسة الجيش اللبناني، تضمّ خبراء في القانون الدولي والخرائط البحرية، تضع استراتيجية طويلة الأمد مبنية على الحق لا على التنازل، وتكليف مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني، كمرجعية أساسية في أي ملف يخصّ حدودنا البحرية.

4- إعداد ملف تفاوضي جديد مع قبرص وسوريا، يرتكز على قواعد القانون الدولي واجتهادات محكمة العدل الدولية، بما يخدم ويحقق سيادة لبنان على حدوده وثرواته الطبيعية.

فخامة الرئيس،

نحن اليوم على حافة فجرٍ جديد، حيث يقف مصير لبنان على مفترق طرق لا يحتمل التردّد أو الخوف. في هذه اللحظة، لا يسعنا إلّا أن نختار، ولن يكون لدينا خيار سوى أن نكتب تاريخنا بأنامل من حديد. اليوم، أمامكم خيار واحد لا غير: إما أن تستردوا لبنان من أيدي الصفقات المخفية في الظلال، وإما أن تسمحوا للتاريخ أن يخلّد صمتنا على ضياع الحقوق، ويجعل من هذا الصمت عارًا يُعلق في أعناق الأجيال المقبلة.

ما نحن على وشك مواجهته اليوم ليس مجرد اتفاقات بحرية أو ترسيم حدود، بل هو اختبار حقيقي لوجودنا كدولة، وحقيقة سيادتنا كأمة. لن يغفر لنا الزمن إذا ضاع هذا الحق كما ضاع غيره في أقبية الصفقات المظلمة.

هل ستختارون أن تكتبوا أسماءكم في سجل الوطن، كرجال دولة استعادوا الحق وحموا السيادة؟ أم ستتركون التاريخ يكرّر صفحات الخذلان؟

إنّ الإجابة اليوم، ليست مجرد قرار عابر، بل هي وعدٌ للأجيال القادمة، وتوثيقٌ في ذاكرتنا الوطنية، وسجلٌ يُكتب بحروف من السيادة. فلتكن إجابتكم محفورة في صفحات التاريخ، قرارًا سياديًا يُخلّد في ذاكرة الوطن، وحقًا يُنقش على الخرائط.