اخبار لبنان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٧ أيار ٢٠٢٥
يترقب اجتماع اللجنة الخماسية بحضور موسع للسفراء ومستعيداً اجتماعات ولقاءات تاريخية ضمتها جدرانه
اجتماع مرتقب للجنة الخماسية الدولية المعنية بلبنان يزمع عقده في قصر الصنوبر في بيروت، لا يضم فقط سفراء الدول الأعضاء في تلك اللجنة إنما سيكون موسعاً، وسيشمل سفراء دول عربية أجنبية أخرى، كألمانيا وبريطانيا والكويت وغيرها، تحت عنوان 'دعم لبنان'.
ولعل اختيار قصر الصنوبر في بيروت يحظى بدلالة تاريخية وتأكيد جديد على أن لبنان قد بدأ بمسيرة الإصلاح والتعافي. فمن الواضح أن نجاح ورشة انتخابات البلدية والاختيارية والتي عمت أرجاء البلاد، هي إشارة إلى أن العهد الجديد برئاسة العماد جوزاف عون يصر على النهوض من رماد الأزمات السياسية والاقتصادية المتراكمة، وسط ترقب داخلي واهتمام دولي غير مسبوق.
تاريخ قصر الصنوبر
يبرز اسم قصر الصنوبر في بيروت كشاهد على اجتماعات ولقاءات تاريخية ضمتها جدرانه، هذا القصر ليس مجرد مقر إقامة السفير الفرنسي، بل يُعد رمزاً سياسياً وتاريخياً بالغ الأهمية في الذاكرة اللبنانية، وشاهداً على محطات مفصلية في تاريخ لبنان الحديث. وقد احتضن هذا القصر عدداً من الاجتماعات اللبنانية المصيرية التي أسست أو أرست ملامح تحولات كبرى في البلاد.
في الخامس من يناير (كانون الأول) 1915، كان موقع القصر حتى ذلك العام مجرد غابة من الصنوبر خالية من أي مبنى. ويقال إن الأمير فخر الدين المعني الثاني زرع هذه الأشجار في القرن السابع عشر لإيقاف زحف الرمال إلى بيروت من جهة الجنوب. ما وفر مكاناً لسكان المدينة للتنزه والاستجمام في القرون اللاحقة.
وفي نهايات عهد الدولة العثمانية، شهدت المنطقة أولى تبدلاتها العمرانية، إذ قرر والي مدينة بيروت يومها عزمي بك بالتعاون مع السفير العثماني في باريس ألفرد موسى سرسق تطبيق مخططات لبناء أندية فخمة للطبقات العليا في المنطقة، على أن تضم داراً للسينما وكازينو وميداناً لسباق الخيل، فقام السفير سرسق باستئجار من بلدية بيروت تلك الغابة والتي كانت تدعى 'الحرش' (ولا يزال البيروتيون يستعملون هذا التعبير)، وكانت تعاني الإهمال.
وكان هدف سرسق آنذاك تأسيس شركة مغفلة هي 'الكازينو والنادي العثماني'، وبدأ بناء قصر الصنوبر في عام 1916 بإشراف فريق من المهندسين منهم أمين وبهجت عبد النور وحسين الأحدب وجورج أفتيموس ومارون غماشي. ووقعت الحرب العالمية الأولى، فلم يستخدم القصر للغرض الذي أنشئ له، حيث صادرت السلطات العثمانية المبنى، والذي حول إلى مستشفى عسكري.
وعند تفكك الإمبراطورية العثمانية عام 1918 وقع لبنان تحت الانتداب الفرنسي، فاختار القنصل فرنسوا جورج بيكو القصر واتخذه مقراً له وأعطاه تسمية 'قصر الصنوبر'. وسرعان ما تحول المكان إلى مقر رسمي لسلطات الانتداب ليعلن من على أدراجه الجنرال غورو في سبتمبر (أيلول) 1920 قيام 'دولة لبنان الكبير'.
وبعد مرور نحو 100 عام، وفي سبتمبر 2019، فتح قصر الصنوبر أبوابه للجمهور، في إطار الأيام الأوروبية للتراث، بعنوان 'ادفعوا أبواب قصر الصنوبر'، حينها جال الزائرون في قاعة الطعام الكبيرة والصالون الكبير والردهة وصالون الموسيقى ومكتب السفير والصالون العثماني والفسحة أعلى درج المدخل ونصب الموتى.
وفي ذلك الوقت، أعلن السفير الفرنسي لدى بيروت برونو فوشيه في لقاء مع الصحافيين أنه 'جرى فتح أبواب قصر الصنوبر أمام الجمهور اللبناني للسنة الثالثة على التوالي، احتفاء بالأيام الأوروبية للتراث، وقد عرفت هذه البادرة نجاحاً كبيراً سابقاً، ففي هذا القصر جرى الإعلان عن دولة لبنان الكبير في الأول من سبتمبر 1920. وهذا القصر نوعاً ما هو بيت اللبنانيين وجزء من تاريخهم، ونحن نحافظ عليه حيث يستضيف العديد من المناسبات، ومنها الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي في 14 يوليو (تموز) من كل عام وهو أكبر حفل استقبال دبلوماسي في المدينة. ونحن أردنا فتح أبواب هذا القصر أمام كل من يرغب بزيارته، فهو جميل جداً، ويعتبر من أجمل منازل بيروت وجرى تجديده وافتتاحه من قبل الرئيس الراحل جاك شيراك في 30 مايو (أيار) 1998 بعد الحرب الأهلية التي هدمته بشكل شبه كامل'.
ملكية القصر تنتقل لفرنسا
في تلك المناسبة وزعت ورقة تعريف بالقصر تناولت قصته منذ بداياته. ووفقاً لتلك الورقة فإنه في عام 1921 عرضت فرنسا شراء المقر فتنازل آل سرسق عن عقد الإيجار مقابل مليون و850 ألف فرنك، وجرى كذلك شراء الأرض التي كانت ملكاً لبلدية بيروت فأصبح قصر الصنوبر ملكاً للدولة الفرنسية. وبين 1928 و1931 تكفل جبران طرزي بتأمين قطع الأثاث الشرقية للقصر وتلبيس الدرج الداخلي فيه بألواح خشبية مصنوعة من خشب الأرز الخالص، واستقدمت لوحات جدارية من دمشق وسقوفيات مصنوعة من الخشب المطلي فضلاً عن الأعمدة الخشبية المطرزة. وتحول القصر إلى مكان لاستضافة حفلات كبيرة فكان كبار الرؤساء والمسؤولين اللبنانيين والأجانب يتوافدون إليه.
لم يكن قصر الصنوبر بمنأى عن أهوال الحرب التي طاولت لبنان عام 1975 فدارت المواجهات بين الميليشيات المختلفة في حدائقه وتعرض لأضرار جسيمة لوقوعه على خط التماس، فانتقل السفراء إلى مبنى القنصلية، قبل الاستقرار في مار تقلا (الحازمية) بعد اغتيال السفير لويس دولامار، في واحدة من بين أشهر عمليات الاغتيال التي تعرض لها الدبلوماسيون خلال الحرب الأهلية. وقتل السفير الفرنسي (59 سنة) في الرابع من سبتمبر عام 1981 بعد إصابته بسبع رصاصات في الرأس والصدر والمعدة، أطلقها عليه مجهولون اعترضوا سيارته في بيروت. وبعد إخلائه للمرة الأخيرة في فبراير (شباط) 1984 كلفت قوى الأمن التابعة للجمهورية اللبنانية بحراسته عام 1986.
وخلال زيارته الرسمية إلى لبنان عام 1996، أطلق الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك أعمال إعادة تأهيل القصر، والذي افتتحه في 30 مايو 1998 بعد أن كانت الحرب الأهلية قد هدمته بشكل شبه كامل.
بيت الوسط الدولي
لا يعتبر قصر الصنوبر مجرد مقر دبلوماسي، بل تحول إلى 'بيت الوسط الدولي' في لحظات مصيرية من تاريخ لبنان. فقد استضاف الإعلان الأول لقيام الدولة، ورعى حوارات الاستقلال، وكان منصة لمبادرات إنقاذية في الأزمات المتتالية، ما جعله يحتل مكانة رمزية في الوعي الوطني اللبناني، كموقع تلتقي فيه القوى الداخلية بإشراف خارجي، لصياغة تسويات حاسمة في مسار الدولة. فما هي اللحظات الحاسمة والتاريخية التي شهدتها جدران ذلك القصر؟.
من الممكن اعتبار أن الحدث الأبرز على الإطلاق في تاريخ ذلك القصر، هو إعلان دولة لبنان الكبير الأول من سبتمبر 1920. في هذا اليوم، أعلن الجنرال الفرنسي غورو من شرفة قصر الصنوبر قيام دولة لبنان الكبير، بحضور شخصيات لبنانية تمثل الطوائف المختلفة، من ضمنهم البطريرك الماروني إلياس الحويك. هذا الإعلان شكل نقطة الانطلاق الرسمية للبنان بحدوده الحالية، بعد أن ضمت فرنسا جبل لبنان إلى مناطق من شماله وجنوبه والبقاع والساحل.
اجتماعات تأسيسية لبلورة الكيان اللبناني (1920 – 1926)
خلال فترة الانتداب الفرنسي، تحول قصر الصنوبر إلى منصة لاجتماعات بين المفوضين الساميين الفرنسيين وزعماء الطوائف والوجهاء المحليين. ونوقشت فيه مسائل مثل النظام الإداري، وتوزيع السلطات، والتمثيل الطائفي، ما أسهم في وضع أسس الدستور اللبناني الأول عام 1926.
ولاحقاً عقدت لقاءات تمهيدية للاستقلال ما بين أعوام (1941-1943)، بعد تصاعد المطالبة بالاستقلال، وشهد القصر عدداً من اللقاءات بين السلطات الفرنسية وقادة لبنانيين منهم رئيس الجمهورية الراحل بشارة الخوري ورئيس مجلس الوزراء رياض الصلح. وعلى رغم أن إعلان الاستقلال لم يحدث في القصر، حصلت مفاوضات وتفاهمات مبدئية فيه، خصوصاً بعد أزمة اعتقال القادة اللبنانيين عام 1943 في قلعة راشيا الوادي في البقاع، شرق العاصمة بيروت.
اجتماعات الحوار الوطني بعد اغتيال الحريري
عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري فبراير (شباط) 2005، وخروج قوات النظام السوري البائد من لبنان، وبدعوة من السفير الفرنسي، شهد قصر الصنوبر اجتماعاً مهماً ضم قادة سياسيين لبنانيين يمثلون القوى الأساسية، لبحث مستقبل العلاقة اللبنانية- السورية والسلاح الفلسطيني، وتثبيت الاستقرار بعد انقسام الشارع اللبناني بين فريق 8 و14 مارس (آذار).
المبادرة الفرنسية بعد انفجار مرفأ بيروت
بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت بعد يومين من ذلك الانفجار، وعقد اجتماعاً مهماً في قصر الصنوبر ضم ممثلين عن الأحزاب الرئيسة ومجموعة من وجوه المجتمع المدني. كان اللقاء محاولة لفرض عقد سياسي جديد، وإنقاذ لبنان من الانهيار، وقد تكرر هذا النوع من الاجتماعات لاحقاً عبر الموفدين الفرنسيين، لكنه اصطدم بالشلل السياسي اللبناني.
لقاءات اللجنة الخماسية
كأن لهذا القصر صلة وصل مع الأزمات اللبنانية التي لا تنتهي، وفي سياق الأزمة السياسية التي أعقبت شغور موقع رئاسة الجمهورية التي تلت انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، أكتوبر (تشرين الأول) 2022، استُخدم قصر الصنوبر كمكان للقاءات بين أعضاء اللجنة الخماسية (فرنسا، السعودية، مصر، الولايات المتحدة، قطر) وبين الزعماء اللبنانيين. وكان الهدف من هذه اللقاءات الدفع باتجاه التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية ووضع خريطة طريق للإصلاح السياسي والاقتصادي.
يذكر أن القصر شهد زيارات لعدد من الرؤساء الفرنسيين، منهم جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند.
في المحصلة، يبقى قصر الصنوبر، بكل ما يحمله من رمزية تاريخية ووطنية، أكثر من مجرد مبنى أثري، إنه مرآة تعكس مسار لبنان الحديث، بتناقضاته وتحدياته. فمنه أُعلنت ولادة 'الدولة'، وفيه عُقدت اجتماعات شكلت مفترق طرق في مصير الأمة، وبين جدرانه ترددت أصداء الأمل كما خيبات الرجاء.
واليوم، وبينما يرزح لبنان تحت وطأة أزمات متتالية، يعود قصر الصنوبر إلى الواجهة كمحطة لصياغة توافقات جديدة. وكأن القدر شاء أن يظل هذا القصر صلة الوصل بين الماضي والحاضر، شاهداً على استمرار البحث عن وطن يستحق الاستقرار والسيادة، لا أن يبقى رهينة دوامة لا تنتهي من الانهيارات والتجاذبات.