اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١٢ نيسان ٢٠٢٥
لم تكن الحرب الأهلية اللبنانيّة مجرّد صراع أهلي تمّ تجاوزه، بل أساس للنظام الذي تلاها، وبدل أن تكون لحظة تأسيس لذاكرة وطنية، أصبحت لحظة إنتاج لسياسة النسيان. كلّ ما يُذكّر بالحرب من محاكمات إلى مناهج دراسية، إلى أرشيفات، اعتُبر تهديداً يجب إسقاطه.
في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية، لا يُطرح السؤال فقط عمّا جرى، بل لماذا لا نعرف ما جرى، لماذا، بعد نصف قرن، ما زال اللبنانيون عاجزين عن الوصول إلى سردية مشتركة، أو حتى متاحة، حول حدث شكّل مصيرهم؟ الجواب ليس في 'النسيان الجماعي'، بل في سياسة واعية للإخفاء.
فالنسيان في لبنان ليس غياباً للذاكرة، بل نظام لإدارتها. منذ العام 1990، لم تكن هناك إرادة للمعرفة، بل توافق على دفن الحقيقة باسم الاستقرار. هذه ليست مصادفة تاريخية، بل خيار سياسي، محلّي ودولي، يُعيد إنتاج الحاضر كما لو أن الماضي لم يكن.
ذاكرة بلا مساءلة: كيف أُقفلت الحرب بدل معالجتها؟
عند توقّف إطلاق النار، اختارت الدولة أن 'تُقفل' الحرب بدل مواجهتها. قانون العفو العام (84/91) منح حصانة شاملة لمرتكبي جرائم الحرب، باستثناء 'الإرهاب ضدّ الدولة'، وهي فئة فضفاضة وغير مطبّقة فعلياً. ما جرى لم يكن مصالحة، بل تسوية بين أمراء الحرب، عادوا بصفتهم 'زعماء طوائف'، ليتقاسموا الدولة بدل إعادة بنائها.
بهذا المعنى، لم تكن الحرب مجرّد صراع أهلي تمّ تجاوزه، بل أساس للنظام الذي تلاها، وبدل أن تكون لحظة تأسيس لذاكرة وطنية، أصبحت لحظة إنتاج لسياسة النسيان. كلّ ما يُذكّر بالحرب من محاكمات إلى مناهج دراسية، إلى أرشيفات، اعتُبر تهديداً يجب إسقاطه.
من يملك حقّ الكتابة؟: الدولة ضدّ المعرفة
في أواخر التسعينيات، حاولت الدولة تعديل المناهج وتوحيد كتاب التاريخ، لكنّ هذه المحاولة توقّفت سريعاً نتيجة اعتراض القوى السياسية، التي رفضت صياغة سرد موحّد عن الحرب. منذ ذلك الوقت، لا يتعلّم طلاب لبنان شيئاً عن تاريخهم الحديث في المدارس الرسمية. يتمّ التدريس حتى العام 1975، ثم تبدأ فجوة زمنية لا تملأها سوى الروايات الطائفية، والذاكرة الحزبية، والإعلام المسَيطر عليه.
في موازاة هذا الفراغ، لا يوجد أرشيف وطني للحرب، الوثائق الأمنية والعسكرية محجوبة، لا خرائط للمقابر الجماعية، ولا معلومات عن مصير نحو 17 ألف مفقود، حتى أسماء الضحايا تُعامل كأسرار، وكأنهم لم يُقتلوا، بل اختفوا.
مجتمع يوثّق… دولة تُقصي
رغم هذا الإنكار الرسمي، نشأت مبادرات أهلية حاولت كسر الصمت. جمعيّات مثل 'أمم'، و'لنعرف'، و'لجنة أهالي المفقودين'، وعملت على توثيق الشهادات، ورسم خرائط للقبور الجماعية، وإنشاء أرشيفات رقمية ومدنية، لكن هذه المبادرات بقيت محاصرة: لا اعتراف قانوني، ولا وصول إلى الوثائق الرسمية، ولا حماية من الملاحقة الأمنية أو الإدارية.
وهكذا، باتت الذاكرة في لبنان عملاً غير شرعي، محاولة المعرفة تُعامَل كفعل سياسي خطر، لا كممارسة طبيعية لمجتمع يريد أن يفهم تاريخه، كلّ توثيق يصبح تهمة، كلّ بحث عن الحقيقة يُختزَل بعبارة: 'بكفّي ننبش القبور'.
النسيان كأداة حُكم
ما نعيشه اليوم ليس قصوراً ثقافياً، أو 'نسياناً لبنانياً' كما يُقال أحياناً، بل سياسة متعمّدة. النسيان أداة حُكم، تُستخدَم لتجنّب المسؤولية، ومنع المحاسبة، وإدامة النُخب الحاكمة. عبر طمس الحقيقة، تحوّل الدولة القضاء إلى واجهة فارغة، وتحوّل الإعلام إلى مساحة إنكار، وتحرم الضحايا من العدالة.
هذا الإنكار ليس محلّياً فقط، بل هو جزء من هندسة دولية لإعادة إعمار لبنان من دون حساب. منذ التسعينيات، تجنّب المانحون والمؤسّسات الدولية من البنك الدولي إلى برامج الأمم المتّحدة، فتح ملفّ الحرب. كانت أولويّاتهم 'الاستقرار'، لا الحقيقة، فدُعمت المؤسّسات، وغُيّبت العدالة، وتحوّلت الدولة إلى جهاز إدارة أزمة، لا إلى مساحة مواجهة للماضي.
مقارنات ضرورية: لماذا لبنان استثناء؟
دول كثيرة خرجت من حروب أهلية، وعاشت تجارب معقّدة في التعامل مع ذاكرتها. جنوب أفريقيا أطلقت لجنة الحقيقة والمصالحة. في الأرجنتين، حُوكم ضبّاط تورّطوا في القتل والإخفاء. المغرب خاض تجربة جزئية عبر هيئة الإنصاف والمصالحة. أما في لبنان، فكان القرار واضحاً: لا لجان، لا محاكم، لا أرشيفات، فقط اتفاق نُخب يُعاد تجديده عند كلّ أزمة.
ما يجعل لبنان استثناءً ليس حجم الحرب، بل مدى إنكارها رسمياً، ومدى نجاح النُخب في فرض النسيان كعُرف، وتحييد الماضي باسم 'الوئام'.
الذاكرة ليست ترفاً ثقافياً: إنها شرط سياسي
في الذكرى الخمسين لبداية الحرب، لا حاجة إلى نصب تذكاري جديد أو بيانات حزينة. ما نحتاجه هو الاعتراف بأن الذاكرة ليست شأناً ثقافياً، بل حقّ سياسي. أن نعرف ما جرى هو أساس المحاسبة، وأساس بناء مشروع وطني جديد. لا يمكن إصلاح الدولة من دون كشف تاريخها، ولا يمكن الحديث عن ديمقراطية من دون اعتراف بالضحايا.
النسيان لن ينتهي وحده، سيبقى ما دام هناك من يربح من الإنكار، لكنّ هذا لا يُعفينا من المحاولة، فالمعرفة، رغم كلّ شيء، تبقى فعل مقاومة، والذاكرة، حتى في غياب الدولة، يمكن أن تُكتب، وتُوثّق، وتُطالب بحقّها في أن تكون علنية، ومحمية، ومعترف بها.
*جيفري كرم: أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية، يكتب عن الثورات، الاستبداد، والسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط