اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ١٩ كانون الثاني ٢٠٢٥
تتبدّى أهمية الطفولة، في كونها مرحلة مؤسّسة لحياة الفرد بجانبها النفسي، الذي يؤدي دوراً مصيرياً في تكوين شخصيته، و يحدد طبيعة هويتها. لذلك، شكّلت عبر التاريخ وما زالت، موضوع استهداف من قبل الاستبداد الذي يسعى إلى جمع رأسمال بشري 'وفيّ' و 'أمين' يخدم بقاءه. لذلك تُقحم أنظمته، دينية كانت أم سياسية، الأطفال في حساباتها، فتسعى إلى استغلالهم وابتزازهم على المستويين النفسي والمعنوي، لتصنع منهم أدوات 'مستقبلية'، تحارب بها من تراه عدواً. بتعبير أوضح، ترى هذه الأنظمة في تدجين هؤلاء سلاحاً فعالاً لتثبيت إيديولوجيتها من جهة، ومن جهة أخرى للدفاع عن مصالحها.
تتخذ 'أدلجة' الأطفال منحىً لا أخلاقي و لا إنساني، بوصفها 'اغتصاباً' معنوياً و نفسياً و فكرياً. ومن هذا المنطلق، يعدّ السيستام الذي يستبيح الطفولة 'بيدوفيلياً'!
يفرض التعرّض لهذه الظاهرة الخطيرة، من زاوية سيكولوجية، تناول الميكانزمات المستخدمة للإطباق على الأطفال، بالإضافة إلى إنعكاساتها النفسية الكارثية، ليصار إلى الكشف عن العدوانية التي يكنّها الاستبداد الديني أو السياسي تجاه الطفولة. وهذا ما يعكس بالتأكيد مدى انحرافه و ضعفه و الفوضى التي يكابدها.
يدرك النظام 'المنحرف' عجز الأطفال عن ضبط انفعالاتهم، فيتخذ منه مدخلاً لعملية تدجينهم. لذلك، يتعمّد توليد مشاعر الخوف عندهم من خلال التهديد بالقصاص 'الإلهي'، والنبذ الاجتماعي نتيجةً لما قد يتبنّونهم، من سلوكيات تتعارض مع مصالحه. وفي هذه الحال، يظهر 'العيب' أداة سيكولوجية حاسمة، تدفع بالطفل إلى التخلي عن أفكاره الخاصة، والتنازل عن مبادراته الفردية، في سبيل تجنّب الألم الناجم عن 'النهي' .
بمعنى آخر، يلقي الاستبداد بالاطفال في مستنقع من المعاناة الانفعالية، بهدف تعزيز شعورهم باللاأمان، ليجدوا في إيديولوجيته الملاذ و الاستقرار والحماية.
وبدوره يظهر الثواب وسيلة فاعلة لتدجين الأطفال، من خلال اللجوء إلى تعزيز الانفعالات الإيجابية، في كل مرة يظهرون ولاءهم المطلق. باختصار، إن الترهيب والترغيب 'سيّدا' الموقف في عملية الأدلجة!
و من جانب آخر، يشكل التماهي مع صور الوالدين، اللذين ينقلان المعتقدات إلى أطفالهما، أو الزعماء الذين 'يجسّدونها'، عاملاً مهماً في إيمانهم بها، وإتباعها على المستوى السلوكي. وفي هذه الحال، يؤدي دوره في التلقين الذي يطلق العنان، إن صح التعبير، للطاعة العمياء والتبعية المطلقة. مما يضعف لديهم لاحقاً الحس النقدي، ويحجب عنهم الرؤية العقلانية لما يجري حولهم.
تتخذ الايديولوجيا من القسمة البسيطة، ميكانزماً تسعى من خلاله، إلى خلق صراع خفي بين الجماعات المتعددة. وترمي بذلك إلى توليد ميلٍ قوي، لدى الطفل نحو 'الالتصاق' بجماعته، و تبنيه لقواعد سلوكية، تضعها خدمة لتماسكها وتلزمه بها ضاربةً بعرض الحائط، إن صح التعبير، فرادته النفسية وحريته الفكرية. وعلى هذا النحو، يصنع السيستام، الذي يسعى إلى تثبيت إيديولوجيته، القسمة البسيطة والخطيرة في الوقت عينه بين الشرو الخير، ال'هُم' وال'نحن'.. إذ يوجد الشر ملتصقاً بال'هُم'، والخير بال'نحن'!
و أما فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي، فإن النظام المستبدّ بهويته الدينية أو السياسية، أو حتى الاجتماعية، يلجأ إلى وضع الرقابة الصارمة عليها، أو حتى إيقافها ليحاصر الأطفال بإيديولوجيته الخاصة، ويمنعهم من الحصول على كل ما يمكّنهم من توسيع أنظارهم، إن صح التعبير، نحو العالم الذي يحوي تنوعاً غنياً من الايديولوجيات. بمعنى آخر، يقف عائقاً ليس فقط أمام قدرتهم على المقارنة فحسب، وإنما أيضاً في وجه تعزيز ثقافة الحوار، واحترام الاختلاف لديهم.
وبالمقابل، يأتي تزوير التاريخ، من خلال التلاعب به، وإعادة صياغته بما يتناسب مع مصلحة 'أرباب' الايديولوجيا، ليشكّل أوالية يتم استخدامها، بهدف تمجيد ماضيها و تشويه الماضي – العدو. لذلك، يؤدي سرد الأحداث بعد تزويرها وشحنها بالبطولات الزائفة، دوره الحاسم في إطلاق نشوة انتصار، تغذّي تعلق الطفل بجماعته و تبعيته لها.
تلقي أدلجة الطفل بثقلها على حياته النفسية، فتجعلها أسيرة معاناة 'كامنة'، أو لنقل 'غير مرئية'، يخفيها حماس لاعقلاني و انفعالي تجاه معتقداته. وصحيح أنها تولّد عنده شعوراً بانتماء يوفر لديه الاستقرار والأمان، إلا أنها تعيق انفتاحه على الجماعات الأخرى، بسبب حثّه على الانكفاء والانطواء اللذين يتم تصويرهما، كقيمتين ينبغي الالتزام بهما، وعدم تجاوزهما من أجل الحصول على 'الرضا'، من قبل الله أو الزعيم أو حتى الوالدين.
وأما فيما يتعلق بالناحية الذهنية، فتتجلّى المآل الخطيرة، في العجز عن التفكير بشكل مستقل، نتيجة تعرّض الطفل، بأسلوب نمطي ومتكرر، لأفكار يتم اتخاذها كحقائق مطلقة، لا تحتمل أي نقاش أو تساؤل. بتعبير أصح، يتم حرمان الطفل من التمتع بملكاته الفكرية، كالتفكير النقدي والفضول… مما يسبب لديه جموداً فكرياً، و محصوراً في الالتزام بكل ما يفرضه النظام 'المضطرب'، من تعليمات و أحكام وفتاوى.
ومن ناحية أخرى، تدفع أدلجة الطفل به، إلى الامتناع عن احترام الاختلاف، فنراه يطلق مواقفه العدوانية تجاه الجماعات الأخرى. و يعود السبب في ذلك، إلى ما غذّته التبعية للإيديولوجيا من تصفية معنوية لهذا الآخر، بالاضافة إلى عقدة 'الفوقية'.
و من الطبيعي، أن تنتهك عملية التدجين، الجانب الأخلاقي من حياة الطفل، و تجعله غير سوي. إذ يولّد التعلق المطلق بالمعتقدات لديه سلوكيات عدوانية، و أحيانا مرضية تجاه من يعتبره مختلفاً عنه و يراه 'معارضاً' . وفي هذا الصدد، يتبدى ضعف رقابته الذاتية واضحاً، لأنه لم يتسنَّ له تطوير ضميره الأخلاقي، نتيحة حرمانه من عيش تجاربه الخاصة والاستفادة مما اختبره.
يعدّ تطوير المناهج التربوية وتحديثها، خطوتين رئيسيتين لتعزيز الفكر النقدي، والانفتاح و احترام الآخرين لدى الأطفال. كما يؤدي حثّهم على اكتشاف قدراتهم وابتكار أفكارهم الخاصة، أكثر منه الخضوع لأفكار تفرض عليه دوراً فاعلاً، في تطوير وعيه و شخصيته، مما يحصّنه و يجنبه أي محاولة للإيقاع به، فريسة لعملية تحويله إلى 'أداة'، يتم استخدامها من أجل ترهيب المختلف. و بدورها، تعدّ الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي ضرورية، لأنها تحفّز مناقشة بعض ما تطلقه من رسائل، قد تحمل الأذى للطفل على المستوى المعنوي و النفسي والفكري.
و أما في لبنان، يسعى الكثير ممن يطبقون على السلطة، إن لم يكن جميعهم، إلى انتهاك طفولته من خلال تعبئتها طائفياً في سبيل خلق 'نماذج' بشرية مستقبلية، يتم تحريكها في كل مرة يشعرون بتهديد وجودهم السياسي.