اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ١٩ نيسان ٢٠٢٥
حقق الجزء الثاني من فيلم 'الحفرة/ المنصّة' (The Platform 2) جماهيرية عالية رغم كثافة الرموز، والقضايا الفكرية والفلسفية التي طرحها، وغالبا ما تؤثر زيادة الحمولة الفكرية بأي عمل فني، سلبا على نسب المشاهدة.
عدالة مزيفة في قاع الحفرة
عاد فيلم The Platform 2، ليثير بأسئلته الفلسفية العميقة العديد من التساؤلات حول طبيعة النفس البشرية المعقدة، وليغوص عميقا في الحفرة، حفرة المخرج الإسباني جالدير غازتيلو أُورُّتيا Galder Gaztelu-Urrutia بجزأيه الأول والثاني، ويعد الجزء الأول من الفيلم الذي أنتجته نتفلكس عام 2019، أول فيلمٍ روائي طويل له، إذ رأينا سجنًا عموديًا، مكونا من طبقات، وكل طبقة تحتوي على سجينين، تتوقف عندهما طاولة طعام ضخمة لزمن محدد تنزل عموديا من الأعلى، ثم تستمر بالنزول، وكل شهر يتغير موقع السجناء عشوائيًا. يلتهم القابعون في الطوابق العليا كل شيء، ولا يتركون لمن هم في الأسفل سوى فتات الأطعمة. كانت الفكرة جديدة، وصارخة ضد الجشع، والطبقية، وانهيار الضمير الإنساني، أما في الجزء الثاني، فالفكرة تتطوّر؛ أو بالأحرى تتعقّد.
يستمر جالدير Galder بمحاولة مناقشة القضايا بطرق غير تقليدية، فيكثف الرمز ليقع في فخ الغموض، فالشخصية الرئيسة في الجزء الأول غورينغ Goreng، التي ضحت بنفسها طلبا لعدالة توزيع الطعام “توزيع الثروة”، تتحول في الجزء الثاني إلى نبي، وتصبح تعليماته أسفارا مقدسة، لتفرض جماعات متطرفة 'المختارين' قواعد وقوانين تُنسب إليه بوحشية.
نجحت الفكرة في الجزء الأول كمجاز للهرمية الاجتماعية، وفي الجزء الثاني تظهر رموز جديدة، مثل القائد (الزعيم المُخلّص) الذي يسعى لتحقيق العدالة بالصَّلب وقطع الأيدي، والفنانة التشكيلية التي تسعى لتحقيق التوازن بالفن والجمال، لكنها تضطر أخيرا لممارسة العنف ضد إرهاب (الزعيم المخلّص)، فتتوسع الإسقاطات على أنظمة سياسية وفكرية متباينة كالاشتراكية، والرأسمالية، والدينية.
الصراع في هذا الجزء أكثر عنفا، فهو يتجاوز شكله البسيط على الطعام إلى صراع على أحقية جماعات متطرفة تنصب نفسها سلطة تطبيق قوانين جائرة، وكيف يتحول القانون بهذه الحالة من أداة لتحقيق العدالة إلى أداة لتكريس السلطة الظالمة، إذ يستثني 'المختارون' أنفسهم من تطبيق القانون. لتبدأ حركة تمرّد عنيفة، تتحول إلى ثورة شعبية تقودها فنانة تشكيلية تُدعى 'بريمبوان' ضد رجل الدين المتطرف 'داغين بابي” الذي يلقب بالقائد أو المسيح.
ركز الفيلم في جزئه الأول على نقد إدارة السجن، بينما حاول الجزء الثاني الانتقال من نقد السلطة الخارجية إلى نقد السلطة الداخلية التي تشكلت من رحم المجتمع، ليتحول المظلوم إلى ظالم. وكأن المخرج يريد أن يقول إن العدالة لا تنهار فقط عندما يظلمنا الآخرون، بل عندما نختلف حول معناها، وكيفية تحقيقها، ليطرح أسئلة من نوع: من يحق له أن يفرض القانون؟ وهل يمكن تحقيق العدالة من دون سلطة راشدة؟
ذاكرة الحفرة
تتشابه الرسالة الرمزية بين الجزء الأول والثاني، ففي الجزء الأول أرسل غورينغ طفلة على طاولة الطعام من قاع الحفرة إلى إدارة السجن، وفي الجزء الثاني، ترسل الفنانة التشكيلية 'بريمبوان' طفلًا صغيرًا إلى إدارة المنصة.
تبعث الطفولة التي لم تدنس رسالة أمل لسجناء الحفرة، واختبار لإنسانية إدارة المنصة، الرسائل ذاتها، ومعاناة الشخصيات تتكرر، وبعض الحوارات تتشابه، وأفعال الشخصيات تتناسخ عمن سبقوهم دون وعي وإدراك، هذا التكرار لسلوكيات مجربة ومكررة، ونتائجها الكارثية ماثلة أمام سجناء الحفرة، يلقي الضوء على ذاكرة الجماعات المغلقة على نفسها، التي تدور في فلك العنف واللاعدالة ذاتها، وهذا يذكرنا بدستور مزرعة الحيوانات، عندما تبدل الدستور، وتغيرت الأحكام ونسيت الحيوانات النصوص الأصلية.
الجزء الأول والثاني.. أيهما أعمق؟
عند مقارنة الجزأين نجد أن رسائل الجزء الأول كانت أوضح، وأكثر قوة وتأثيراً، بينما غاص الجزء الثاني في الرمزية لدرجة تشويش المشاهد، وعدم فهمه كثيراً من المشاهد، فبعض المشاهد بدت مبهمة، وبعضها ظهر كهلاوس للشخصيات مما أربك المشاهد وجعل الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال ضبابية.
ولعل هذا الإرباك يعود لجرأة المخرج في التجريد والتجريب، مما جعل تجربة الجزء الثاني أكثر نضجاً، وعمقا، وهذا يجبر المشاهد على تكرار المشاهدة، ليجتهد بتفسير المشاهد الغامضة. ففكرة السجن العمودي ورمزيته أصبحت فكرة مستهلكة، وكان لا بد للعمل من البحث عن رمزيات أعمق.
الناجي الوحيد
يبدأ الفيلم بمجموعة من الأطفال يتراكضون في مكان معتم ذو فتحات إضاءة قليلة، يتوسطه هرم مدرج، ومِزَلقة وحيدة (الزحليقة)، ويستمرون في الصعود والهبوط.
يتزاحم الأطفال للصعود في مشهد ثان بذات المكان، بعد تنفيذ حكم قطع يد الفنانة الشكيلية 'بريمبوان'، وصلب شريكتها في السجن، بأمر من 'داغين بابي” الملقب بالمختار أو المسيح.
عندما قررت الهروب يتزاحم الأطفال أكثر في مشهد ثالث، ويصل طفل واحد فقط إلى قمة الهرم، بينما يتساقط الآخرون في المِزَلقة، ثم يتقدم باتجاههم رجل وامرأة. يقف الرجل بسكون في الأسفل، بينما تصعد المرأة باتجاه الطفل، لتصطحبه مع الرجل ويغادرون المكان.
لعل قصة الفيلم تنتمي إلى تيار الوعي، والنص مفتوح على التأويلات، ورسالة الأمل المتمثلة بالطفولة يمكن أن تكون المدخل لتفسير مشهد الأطفال المكرر، فهو يرمز إلى حقيقة بيولوجية، ووجودية، فقمة الهرم هي فرصة النجاة الوحيدة لهم، لذلك يتسابقون للصعود.
إنها بشكل أو بآخر عملية الإخصاب، وبداية الحياة، فالأطفال المتسابقون يمثلون الحيوانات المنوية المتنافسة على اختراق البويضة، التي تمثل القمة، فرصة النجاة لطفل واحد فقط أو حيوان منوي واحد سيصل للبويضة.
وقوف الأب عند قاعدة الهرم، وصعود الأم لأعلاه، ثم نزولها بصحبة الطفل، ومغادرة المكان برفقة الأب، يعطي لهذا التأويل بعض الإشارات الدالة، وهو ذات الطفل الذي أُرسل كرسالة لإدارة السجن -وكما ذكرنا سابقا- الفيلم مفتوح على كمية ضخمة من التأويلات، ويحتمل كثيراً من الإسقاطات، فهو لا يقدّم إجابات محددة، بل يطرح الأسئلة الفلسفية الصعبة، ويدعونا للبحث عن أجوبة حول الحق والعدالة والنفس البشرية، هو فيلم صعب الهضم على المستوى البصري والفكري. يُزعج، يُربك، ويُجبر المشاهد على التفكير، لا يمنح مفتاح الخلاص، بل يُعرّي، ويفضح أوهام الخلاص المزيفة.