اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢ حزيران ٢٠٢٥
*﴿أَجَعَلتُم سِقايَةَ الحاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ؟ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾* (التوبة: 19)
في زمنٍ تُشعل فيه الشعائر أركان الأرض، تقف غزة وحدها، شعلةً لا تنطفئ، قبلةً للدم، ومحرابًا للأبطال. هنا، لا يُرفع الإحرام، بل يُرفع الكفن. هنا، لا تُرمى الجمرات، بل تُرمى القذائف. هنا، يبدأ الحج الحقيقي... إلى الله.
في زمن تُرفع فيه التلبيات نحو البيت العتيق، وتعلو فيه الأصوات بالتكبير والتهليل، تصدح غزة بنداء آخر... نداء الدم والصبر والرباط.
غزة اليوم ليست كغيرها، حجها ليس كسائر الحجاج، ومقامها عند الله ليس كمقام الطائفين والساعين. إنها حجٌ لا يُشبه الحج، ورباطٌ بين الأرض والسماء، تُسطّر فيه غزة ملحمة الفداء، وتكتب قصيدة البطولة بالدم والركام والتكبير المتقطّع من تحت الأنقاض.
هنا، في غزة، كل قطرة دمٍ هي لبّيك اللهم لبّيك، كل شهيدٍ هو طواف، كل حجرٍ هو سعيٌ بين صبرٍ وأمل، وكل بيتٍ مهدوم هو منى وعرفة ومزدلفة.
هنا حيث تُبعث الأرواح من تحت الركام، تتوهّج العزيمة، وتتقد جذوة الإيمان، فتعانق السماء، وترتقي الأرواح في مواكب الشهداء، كأنها هديٌ يُقدّم على مذبح الحرية، وحجٌ أعظم من كل حج... حجّ الكرامة والتضحية والإصرار.
'الحج أشهر معلومات'، وقد انطلقت تكبيراته من مشارق الأرض ومغاربها، وتوافد الحجيج تلبيةً لهتاف إبراهيم عليه السلام:
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ (الحج: 27)
عدا غزة، التي نُزعت منها فرصة الحج كما نُزعت عنها الحياة. غزة التي تبدو وكأنها خُرِجت من دائرة الكرة الأرضية، نُسيت في الحسابات، واستُثنيت من القرعة، وصار أهلها غرباء حتى عن بيت ربهم. أكثر من ألفي حاج، صدرت أسماؤهم مع مطلع عام 2023، ينتظرون منذ سنوات، واليوم يكتوون بنار الفقد والخذلان، يراقبون الحج من شاشات العالم، وهم الأقرب إليه دمًا ووجعًا.
في شمال غزة، في قلب العراء والركام، حيث لا ظلّ إلا للشهادة، تُمتحن الأمة بأهلها، ويُرفع البلاء في ذبح الأبناء... من هناك ارتفعت غزة إلى مقام إبراهيم عليه السلام، يوم قال لابنه:
﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ (الصافات: 102)
فأجابه الأبناء الصادقون:
﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾
غزة لم تجد كبشًا للفداء، لم تنزل عليها أضحية من السماء، بل ارتقى أولادها في مقصلة الإيمان، مقبلين غير مدبرين، وأجسادهم تتهجد في حضرة الرحمن.
غزة اليوم، هي إبراهيم الذي وفّى.
هي من سلّمت أمرها لله، وقالت: خذ منا حتى ترضى.
هي التي قيل عنها:
﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ (الأنبياء: 68)
فأُلقيت في نيران المحتل، وظنّ العالم أنها ستحترق، لكنها خرجت أمةً تُحمل في جرحها أمة، وتفدي بدمها أمة، وتحمل على أكتافها وعدًا أبديًا:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (النحل: 120)
هي غزة، الأمة في جسد، والملحمة في مدينة، والقيامة في شقٍّ من الأرض.
هذه غزة، تؤمن بقدرها كما آمنت هاجر، تسعى بين صحراء الموت والحياة، لا تحمل سوى يقينها، وتردد كما ردّدت أم إسماعيل: 'الله لا يضيع أهله'.
وهي اليوم تُخضب الرمال بدمها، وتُصلي تحت القصف، وتهتف تحت الردم:
'لا نظن بك يا ربنا إلا خيرًا، خذ من دمنا حتى ترضى'.
أيها العالم، أيها الواقفون على مشارف مكة، يا من أنعم الله عليكم بالحج، انظروا نحو غزة...
إن حجّكم عظيم، لكن في غزة حجٌ آخر، حج الرباط والفداء، حجّ من نوع آخر يُكتَب بالدم، وتُرفع فيه الأرواح قربانًا للحق.
'يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعبُ'
هكذا صاح ابن المبارك من قلب ساحات الجهاد، وهكذا تصيح غزة من بين الأنقاض، ليتردد صداها في كل قلب مؤمن.
غزة اليوم تؤدي فريضة لا يستطيعها أحد. حجها هو الحياة في ظل الموت، هو الصلاة تحت القصف، والصيام في الحصار، والتكبير على جراحها، والرضا بالقضاء، والتسليم المطلق للرب الرحيم.
غزة اليوم، هي الأسبق إلى الله، والأقرب إلى عرش الرحمن، وموعدها النصر القريب:
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ؟ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: 51)
فكل يوم وغزة تكتب التاريخ، كل يوم وهي تقيم أعظم مناسك القرب، كل يوم وأنتم يا أهلي، يا ربعي، يا غزتي... بألف خير، وألف رفعة، وألف ثبات.
وما النصر إلا من عند الله.