اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
لا يمكن الحديث عن القدس المحتلة من دون التوقف عند قضيتين مركزيتين، القضية الأولى، ما تتعرض له المدينة منذ احتلالها الكامل عام 1967 من سياسات تهويدٍ ممنهجة، استهدفت الإنسان والحيز الجغرافي، في محاولة لتحويلها إلى عاصمةٍ مزعومةٍ للاحتلال. أما القضية الثانية، فهي إرادة المقدسيين في الصمود والمواجهة، وقدرتهم على إفشال مشاريع الاحتلال، على الرغم من استخدام الأخير لكل ما لديه من مقدرات وأدوات، وأذرع تعمل على تهويد المدينة، وإحداث تغييرات مباشرة في طابعها وسكانها. وما بين هذين المسارين المتناقضين، تتشكل مشهدية المواجهة والصمود في القدس المحتلة، ما بين مشروع إحلاليّ يسعى إلى تثبيت وقائع التهويد، في مقابل إرادةٍ فلسطينيةٍ متجذّرةٍ، تُصر على البقاء والدفاع عن الهوية والوجود.
الصراع الديموغرافي... معركة يخشاها الاحتلال
منذ احتلال القدس، عملت سلطات الاحتلال على فرض غلبةٍ سكانيةٍ يهودية في المدينة، عبر هدم المنازل وسحب الهويات وتشديد القيود المعيشية لدفع الفلسطينيين إلى المغادرة. لكن النتائج جاءت عكس ما أرادته سلطات الاحتلال. فبحسب معطيات الاحتلال المنشورة في عام 2024، فقد بلغ عدد سكان القدس المحتلة حتى نهاية عام 2022 نحو 981700 نسمة، يسكنون في شطري المدينة المحتلة، من بينهم 597.400 مستوطن يهوديّ الذين يشكلون نحو 61%، و371.400 فلسطيني، الذين يشكلون نحو 38% من مجموع السكان في القدس المحتلة.
أما في الشطر الشرقي من القدس المحتلة، تُشير المعطيات الإسرائيليّة إلى أن عدد سكانها يصل إلى نحو 612400 نسمة، من بينهم 233600 مستوطنٍ يهوديّ، يشكلون نحو 38% من سكان الشطر الشرقي، أما عدد الفلسطينيين، فيبلغ نحو 378700 فلسطينيّ، يشكلون نحو 62% من سكان الشطر الشرقي للقدس المحتلة، و98% من مجمل الفلسطينيين القاطنين في شطري القدس، وتُظهر البيانات أن القدس تحوّلت إلى مدينةٍ طاردةٍ للمستوطنين؛ ففي عام 2019 سجّل ميزان الهجرة اليهودية عجزًا بنحو 8200 مستوطن، وهو نمط يتكرر منذ سنوات. وفي المقابل، يواصل الفلسطينيون نموهم الطبيعي، إذ ارتفعت نسبتهم من 25.8% عام 1967 إلى نحو 39% عام 2020، ومن المتوقع أن تصل إلى 43% عام 2030 وقرابة النصف بحلول عام 2050. وتُثبت هذه الأرقام أن كل محاولات الاحتلال لتكريس أغلبيةٍ يهوديةٍ حاسمة قد فشلت، وأن الوجود الفلسطيني في القدس بات حقيقةً راسخة تتحدى محاولات الإقصاء والتهجير.
الرباط في الأقصى... جبهة الصمود الأولى
يحاول الاحتلال فرض سيطرته الكاملة على المسجد الأقصى المبارك من خلال تكريس الاقتحامات شبه اليومية، وما ارتبط بها من تصاعد في أداء الطقوس اليهوديّة العلنية، في سياق تطبيق استراتيجية 'التأسيس المعنوي للمعبد'، لكن الرباط في الأقصى، واندلاع الهبات الشعبية في السنوات الماضية أسهمت في كبح كثيرٍ من هذه المخططات، ابتداءً بهبة السكاكين وصولًا إلى الصمود في الأقصى، ودخول المقاومة في غزة على خط المواجهة، وإطلاق معركتي 'سيف القدس' و'طوفان الأقصى'.
ولذلك سعت أذرع الاحتلال في السنوات الماضية، إلى تطبيق سياسات جديدة لتشديد القيود على الأقصى عامة، والعنصر البشري الإسلامي على وجه الخصوص، وهي سياسات تصاعدت بشكلٍ كبير في ظلال حرب الإبادة على غزة، إلى تقليل قدرة العنصر البشري الإسلامي على الوصول إلى الأقصى، ومنع المرابطين والمصلين من الدخول إلى المسجد بالتزامن مع أوقات الاقتحام شبه اليومية، إلى جانب تطبيع المصلين مع وجود قوات الاحتلال في الأقصى، وهو ما يعني أن الاحتلال يريد تطبيق سياسة 'الصلاة تحت الحراب'، على أنها الفرصة الوحيدة لاستمرار صلاة المقدسيين في الأقصى، وهو ما يجب أن يتوقف، وتستعيد الجماهير الفلسطينية قدرتها على التحرك والمواجهة، واستعادة زخم الرباط في الأقصى مجددًا.
هوية القدس الحضارية... مقاومة التهويد الثقافي
تسعى سلطات الاحتلال إلى طمس هوية القدس الحضارية والإسلامية والمسيحية، من خلال إحاطة المسجد الأقصى بمعالم يهوديةٍ مختلقة، وعدد كبير من الحفريات، أسفل المسجد وفي محيطه، ضمن مشروع 'تأهيل الحوض المقدّس'، و'مدينة داود'، وقد أقام الاحتلال أكثر من مئة كنيسٍ ومعلمٍ يهوديٍّ في البلدة القديمة، أبرزها 'كنيس الخراب' و'بيت شتراوس'، في محاولةٍ لتغيير المشهد العمراني والديني للمدينة.
غير أن هذه المساعي تصطدم بعقبةٍ عميقة الجذور، وهي هوية القدس المتجذّرة في وعي أبنائها، وفي قدسية مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وفي تلاحم نسيجها العمراني والإنساني/ فالفلسطينيون الذين رفضوا بيع منازلهم رغم الإغراءات المالية الضخمة، وحوّلوا الكثير منها إلى أوقافٍ ذريةٍ لحمايتها من التسريب، يجسدون مقاومةً صامتةً في وجه التهويد الثقافي، إضافةً إلى عدم قدرة الاحتلال على تثبيت الهوية اليهوديّة المختلقة، فهي غريبة عن المدينة، على الرغم من كل ما قامت به أذرع الاحتلال لتثبيتها.
سياسة الهدم... سلاحٌ لكسر الإرادة
تشكل سياسة هدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم واحدةً من أدوات الاحتلال الرامية إلى إخراج الفلسطينيين خارج القدس المحتلة، وحرمانهم من البقاء في المدينة، وقد صعدت أذرع الاحتلال في السنوات الأخيرة عمليات الهدم، ففي تقديراتٍ لبلدية الاحتلال في القدس المحتلة، يصل عدد المباني المعرضة للهدم إلى نحو عشرين ألف مبنى، بذريعة بنائها من دون الحصول على ترخيص وبحسب معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، هدمت سلطات الاحتلال ما بين 1/1/2009 و6/10/2024 نحو 2048 منزلًا ومنشأة في القدس المحتلة، وهذا ما أدى إلى تهجير نحو 4150 فلسطينيًّا، وتضرر أكثر من 50 ألف آخرين، وفي ظلال حرب الإبادة أشار تقرير صادر عن محافظة القدس، إلى أن الاحتلال نفذ خلال عامين من العدوان أكثر من 654 عملية هدم، من بينها 436 منشأة هدمتها جرافات الاحتلال، في مقابل 218 منشأة هدمها أصحابها قسريًا تجنبًا لدفع الغرامات والمخالفات الباهظة.
وتُقدّر بلدية الاحتلال أن نحو عشرين ألف مبنى مهدد بالهدم بحجة البناء دون ترخيص، رغم أن الحصول على الترخيص يكاد يكون مستحيلًا، إذ يستغرق سنواتٍ طويلة وتصل تكاليفه إلى مبالغ باهظة، لا يستطيع الفلسطيني تحملها، وهو ما يدفعه في العديد من الحالات إلى البناء من دون الحصول على الترخيص. وعلى الرغم هذه الظروف القاسية، وتصاعد عمليات الهدم سنويًا، إلا أن ثبات المقدسيين، وعدم خروجهم من مدينتهم، واستمرار حملات التضامن العام، والحملات الشعبية لإعادة بناء المنازل، يسهم ولو بشكلٍ طفيف في التخفيف من عمليات الهدم، وهو ما يُشير إلى ضرورة دعم هذه المبادرات، والسعي إلى مزيدٍ من تثبيت المقدسيين في مواجهة تغول الاحتلال، وسعيه المستمر إلى إخراج الفلسطينيين من مدينتهم.
المؤسسات الأهلية... صراع البقاء في وجه الإلغاء
يعمل الاحتلال على تفكيك النسيج الأهلي في القدس، عبر استهداف المؤسسات التي تشكل رافعةً للمجتمع المقدسي في مجالات التعليم، والصحة، والإغاثة، والإعلام. فقد أُغلقت أكثر من مئة مؤسسة أهلية خلال العقود الماضية، ضمن سياسة تهدف إلى إفراغ المدينة من أي بنيةٍ مجتمعيةٍ مستقلة. ومع ذلك، ما يزال الشطر الشرقي من القدس المحتلة، يضم أكثر من 300 مؤسسةٍ أهلية، من بينها نحو 244 مؤسسةً فاعلة، و41 منظمةً دولية. ويكشف تقرير إسرائيلي أن 15% من تمويل هذه المؤسسات يأتي من مصادر فلسطينية داخل القدس والضفة الغربية، و10% من العالم العربي، فيما يعتمد الباقي على دعمٍ دوليٍ يخضع غالبًا لقيود الاحتلال، وعلى الرغم من التضييق المستمر على عمل هذه المؤسسات، ومحاولات الاحتلال إغلاقها بذراع واهية، إلا أن هذه المؤسسات تتابع القيام بدورها، وتُسهم في تثبيت المقدسيين وتخفيف آثار سياسات الاحتلال على الصعد المعيشي والمؤسسية وغيرها.
المقاومة في القدس... جذوة لا تنطفئ
تظلّ المقاومة في القدس عصية على التوقع من قبل سلطات الاحتلال وأذرعه الأمنية، على الرغم من مختلف أدوات الرقابة والقمع التي تمتلكها هذه الأذرع، ولا شك بأن هذه المقاومة استطاعت إرباك الاحتلال في العديد من المحطات خلال السنوات الماضية، وإلى جانب العمليات الفردية، تشهد القدس المحتلة العديد من نقاط الاشتباك في البلدة القديمة ومحيط الأقصى، وفي أحياء القدس المختلفة، مع ضرورة استمرار هذه المقاومة، في استهداف الاحتلال، ومن المهم استعادة معادلة 'تدفيع الثمن'، في مقابل أي عدوان يقوم به الاحتلال تجاه المقدسات والمقدسيين على حدّ سواء.
أخيرًا، تختزل القدس اليوم صراعًا مركّبًا بين مشروع تهويدٍ شامل، وإرادة صمودٍ فلسطينيةٍ متجذّرة. فعلى الرغم من كل ما يمتلكه الاحتلال من أدوات القمع والسيطرة، فإن ما يواجهه في القدس يتجاوز الحسابات المادية المجرّدة، فالصراع على القدس خاصة وعلى فلسطين عامة، صراعٌ ما بين الهوية الأصيلة للمكان، ووجود سكاني وديني متجذر، في مواجهة هوية مختلقة، ووجود يهوديّ مستحدث، وأن الصمود الفلسطيني في القدس المحتلة، جزء مركزي من المواجهة مع الاحتلال، وأن تسليط الضوء على نماذج الصمود، والسعي إلى دعمها وتطويرها وتثبيتها، جزء من المعركة مع الاحتلال، والأخذ على يده.

























































