اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة شهاب للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٧ نيسان ٢٠٢٥
حياة الأمم والشعوب والمجتمعات والأفراد تقاس بقدر عطائها لا بمدة حياتها الزمنية. لذلك، كان من يعيش لغيره (وإن قصر عمره) يعيش طويلاً، لأنه يسبق الزمان في ميلاده وفي قوته. أما من عاش لنفسه، فإنه يعيش حياة قصيرة (وإن طال عمره)، لأنه ينفصل عن أمته ومجتمعه ووطنه. وجلّ أولئك العظام كانت حياتهم (غالباً) قصيرة، لكن الخلود لازمهم وحُفظ اسمهم محفوراً في تاريخ أمتهم وشعبهم. أولئك الرجال ينبغي أن نلتزم بذكرهم ونعيش مع أطياف تضحياتهم وعطائهم.
من أولئك الرجال كان القائد أبو جهاد (خليل الوزير)، أمير الشهداء، ومعلم من معالم الثورة، وقطب من أقطاب العمل التحرري الفلسطيني. فبعد تاريخ طويل من العطاء المتواصل، لقي الرجل حتفه في منزله الآمن بطريقة إرهابية لا تزال الكثير من حلقاتها مفقودة أو مغيّبة عن الجماهير. كان الرجل رمزاً من رموز المقاومة الصلبة، والعقلية العسكرية الفلسطينية التي لا تقبل الانحناء أو التبديل. لذلك، عندما نُشر خبر اغتياله، تدافعت مواكب الشهادة الفلسطينية للحاق بركب أبو جهاد، حيث سقط على ثرى فلسطين إثر نبأ استشهاد أبو جهاد ما يقرب من عقود ثلاثة شهيداً.
وفي السادس عشر من أبريل من كل عام، بعد استشهاد أبو جهاد، يقف شعبنا الفلسطيني وقفة إجلال وإكبار لهذا الشهيد، ليُقام له حفل تأبين ونصب ذكرى. نشيد بالرجل ونذكر مناقبه وعطاءه وجهاده وتضحياته، منذ أن كان فتى يافعاً في مخيمات وشوارع غزة، ومنذ التحق بركب العمل العسكري لجماعة الإخوان المسلمين في ذلك الحين، وحياة الغربة والرحيل عن الوطن بعد ذلك. حيث أسس مع رفاقه (حركة فتح) ومن ثم منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الرجل العسكري الأول في هذه الحركة، وقائد وحدات الانطلاق نحو فلسطين. لذلك كان الرجل هدفاً ثميناً وصيداً غالياً لأولئك الذين سرقوا الوطن والإنسان، وسرقوا البسمة من الثغر الفلسطيني. وللأسف، تمكن القتلة من اصطياد الرجل العظيم في منزله، حيث قُتل بطريقة وحشية حاقدة أمام زوجته أم جهاد.
ومن أولئك الرجال كان القائد أبو محمد، حيث مضت 21 سنة بعد أن تسرب دم القائد الشهيد عبد العزيز الرنتيسي في هدوء الأمسية، ليصعد صوته من غموض الأشياء القاتمة في فلسطين، مثل برج حجري لصوته الشهيد. 'أنا (القائد الرنتيسي) المولود في حقل فلسطين، علي أزهاره دم لم أستطع تفسيره طفلاً، ولم أستطع احتماله رجلاً. تعلمت كيف أمسح الدم عن الأقصى بالحرائق والتفجيرات، فكانت حماس والقسام. وكيف أمسح الدمع من عيون المحرومين والمكلومين، فكانت المؤسسات الخيرية. وكيف أربي الجيل الجديد، فكانت المساجد والمدارس والجامعات. ليس في فلسطين حجر أو زاوية أو جدار لا يستطيع أن يتهجأ اسمه. ليس هناك جدول ولا سنبلة أو شجرة لا تتشابه بها مع ملامحه، تتشابه مع الرجل الذي أخفى ملامحه لتتضح معالم البلاد.'
ولسنا الآن بصدد استرجاع الماضي الأليم، فما زلنا نتجرع مرارة الحاضر الممتد بمحرقة غزة المستمرة لسنة ونصف من ذلك الماضي. ولكننا بصدد لفت النظر إلى المنهجية المعتمدة لدى شعبنا وقيادتنا ومنظماته، ألا وهي منهجية التسليم بالأمر الواقع، رغم مرارته وغبنه وظلمه لشعبنا وأمتنا. فإن أي حدث يضاف إلى قاموسنا الفلسطيني يصبح يوماً أسود إضافياً في تاريخنا المليء بنكد الطالع، المغموس بالمرارة والعلقم. حتى غصّت رزنامة الفلسطيني بالأحداث المؤلمة، وما يكاد يمضي يوم إلا ونحيي الذكريات الغارقة في حبر الدم الفلسطيني. ويغدو همنا الأوحد بعد كل حدث وألمه كيفية إحياء ذكراه والوقوف على أطلاله، والبكاء على المجد المهدور غدراً في واقع ضعفنا وهواننا على الناس.
ولا يخطر ببالنا التحول إلى النهج العلمي الأصيل في معالجة أسباب الحدث، والحرص على عدم تكرار وقوعه، ومحاسبة مقترفيه، والجرأة في الدفاع عن أجسادنا الغرقى في بحر دمنا المراق بأيدي السارقين القتلة.
وها نحن اليوم، بعد مضي سنوات على استشهاد أبو جهاد وأبو محمد، لا نزال نطرح السؤال: من المسؤول عن إراقة دمهما الطاهر؟
هو ذاته يا سادة، الإحتلال الظالم المسؤول عن آلاف مؤلفة من الدماء الطاهرة في محرقة غزة أيضا، لا عدو لنا سواه ولا نقاوم إلا إياه حتى يخرج من أرضنا، من جرحنا، من ملحنا.
تخرج غزة لتودع 'القائدين'، وتخرج كل فلسطين لتشاهد الشهيد الذي لم يمت. تكبر البلاد بولادة 'الرنتيسي والوزير'... تزغرد أم لطفل قادم في وجهه ابتسامة، وفي يديه دفتر صغير ومركب ورقي، يركض إلى بحر غزة يبحث عن حدوده، يتقلب على رماله، ويكتب 'الرنتيسي... الوزير لم يمتا، ولكن شبه لهم'. هكذا يموت الأبطال، أشجارًا أصلها ثابت وفرعها في السماء، جبالًا تمر عليها ضربات السنين، لا يموتون. ينتقلون من حياة إلى حياة، ومن دار إلى دار، كما الطير يسرح في فضاء لا حدود له.
هكذا خرج 'القائدان' من الحياة، حياة العنف والكد، خرجا بعد أن أدارا لها الظهر، وبعد أن نظرا إليها نظرة الاستخفاف وواصلا السير في طريق المقاومة حد الشهادة عربون الجنة وعلامة صدق الطريق لتحرير فلسطين.