اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
في عالم الفن، حيث يتلاقى الإبداع مع الوعي الثقافي، يجد الفنان حسن فيداوي نفسه في مكانة استثنائية، إذ يُعتبر أحد الأسماء البارزة في مجال الرسم الكاريكاتيري والفني على حد سواء. يمتاز أسلوبه بقدرة فائقة على تجسيد الشخصيات، ليس فقط عبر الأبعاد البصرية، بل عبر الأبعاد النفسية والعاطفية التي تلامس عمق المتلقّي. في هذا الحوار، نستضيف الفنان حسن فيداوي لنتعرّف على أفكاره، رؤاه الفنية، فلسفته في الرسم الكاريكاتيري، وعلاقته بالفن في العصر الرقمي.
من خلال تجربته الثرية، يتناول فيداوي العديد من الموضوعات التي تلامس هموم المجتمع، وقدرته على تحويل الرسم إلى وسيلة نقدية فلسفية، بينما يظل مخلصاً لرؤيته الفنية الخاصة التي لا تعرف الحدود. سنتعرف أيضاً على مشاعره عندما يتناول وجوهاً ارتبطت في الوجدان العربي مثل فيروز، وكيفية تصوره للفن في عصر يتغيّر فيه مفهوم الإعلام والفن ذاته. إذ لا تقتصر رؤية فيداوي على التقليدية؛ فهو يدمج بين اللمسة الشخصية والتقنيات الحديثة، محاولاً إضفاء معنى عميق على كل عمل يقدمه. من خلال هذا الحوار، سنغوص في أعماق فكره، لنتعرّف على فلسفته الفنية، ونتلمّس أثر أعماله في الذائقة العربية والعالمية. ولنفتح نافذة على عالم الفنان الذي يبقى دائماً في حالة من التجدّد والابتكار، ويثبت أن الفن ليس مجرد تعبير، بل هو تأمّل متجدّد في تفاصيل الحياة.
{ حين رسمت فيروز، هل كنت ترسم صوتاً أم وجهاً أم شيئاً ثالثاً لا يُقال؟
- عندما أرسمها، أكون في داخلي مشبعاً بهذا الإحساس النبيل الذي لا يرتبط بالمتعة أو بالسكينة (serenity). أنظر إليها كأنها متمثلة في صورة العذراء. أحب كثيراً الأغاني المقدّسة أو التراتيل. فيروز ليست مجرد مغنية، بل هي وسيط بين السماء والأرض. الترانيم التي تختارها وكأنها هبة من القوى العليا الكونية. هي شخصية نادرة ولن تتكرر بهذه السمة، لأن الشخصيات من هذا النوع تظهر في عصور مختلفة، بعيداً عن بعضها، لأنها تتمتع بقدرة هائلة على التأثير واستثارة المشاعر الحسية العميقة.
{ لماذا اخترت أن تبالغ في الملامح بدلاً من تخفيفها أو تفكيكها؟
- هناك مدرسة معروفة في الفن تسمّى «مدرسة الشبه»، وهي تعني استحضار الشبه بمعنى محاولة رؤية العين والعين الثالثة ونسبة الميل هندسياً. أغلب الناس يتبعون مدرسة ثانية، بينما أنا أتباع المدرسة الأولى، وهي موجودة منذ أيام دافينشي. كان دافينشي يتجول في الأسواق، يتأمّل الوجوه الغريبة ويحاول فهم الطاقة التي تثيرها. اكتشفت أن دافينشي كان يؤمن بالفراسة، وأنا كذلك اكتشفت هذه الفراسة داخلي. أحساسي بالبورتريه قوي جداً. عندما أرسم فيروز، أتصور أكثر من عشرين بورتريه في ذهني وفي نفس الوقت أرى ذلك كفيديو. أتقمص الشخصية وأعيد قراءتها داخلياً، وفجأة أضعها على وجهي وأشعر وكأنني هي في لحظة توحّد. لا أبحث عن التشابه بشكل مفرط، بل أترك نفسي للترجمة الخاصة لي. حتى لو كان التشابه بعيداً قليلاً، ستعرفين أن هذا هو «فلان الفلاني».
{ هل ترى أن للكاريكاتير وظيفة تتعدّى النقد إلى التأمّل الفلسفي؟ وهل بعض لوحاتك محاولة لذلك؟
- أدخلت معادلة جديدة في الكاريكاتير. كلمة «كاريكاتير» للأسف، عند العرب، لا تحمل جديّة كافية، على الرغم من أنني لا أقصد رسامي الكاريكاتير العرب السياسيين الذين هم على مستوى رفيع. بالنسبة لي، التأمّل الفلسفي هو جزء أساسي. دخلت المعادلة الجديدة وهي «التكنيك». على سبيل المثال، أعمل بالبلاستيل مرة، والأغواش مرة أخرى، ثم الديجيتال أو الـ«ثري دي». بالنسبة لي، التكنيك هو المعادلة الخاصة بي، وكأنني أعدّ «طبخة». أحب التجريب وهذا قد يكون خطراً جداً في الكاريكاتير، لأن الناشر ينتظر دائماً نتيجة واضحة لتوضيب الصفحة. إنها مخاطرة في تقديم شيء جديد، بينما يُفرض عليك أن ما ترسمه يجب أن يتم قبوله. الجهد الروحي والتأمّل الفلسفي يجب أن يتداخل مع الصورة. أحياناً أدمج ذاتي في العمل، ولا أعرف إن كان ذلك صحيحاً أم خاطئاً، لكن الغريب أن الآراء تكون غريبة بعض الشيء. لهذا السبب، غالباً ما أترك مساحة للإبداع. في «الأهرام»، كانوا يمنحونني أربعة أعمدة بطول الصفحة لبورتريه واحد. هي مسألة فعل ما أؤمن به، ولا أستطيع تقديم أي تنازلات.
{ ما هو دور الكاريكاتير في التأثير على الرأي العام في عصرنا الحديث؟
- أي شيء حقيقي، حتى لو صنعنا عود كبريت حقيقي، سيقف العالم كله لمشاهدته. الناس تشوّقهم الحقيقة لأننا نعيش في مجتمع مزيف. الذكاء الاصطناعي يبرمجنا منذ فترة طويلة، والناس يظنون أنه اكتشف مؤخراً. عندما نتحدث عن الحقيقة، كأننا نوقظ الناس. لدينا «كهف أفلاطون»، حيث الناس مربوطة في جدرانه، يرون أشباحاً وظلالاً لما يحدث. الناس نيام، كما يقول الإمام علي: «إذا ماتوا استيقظوا». دورنا هو أن نبقى مؤدّبين في يقظتنا، دون إجبار الناس على الاستيقاظ. رسام الكاريكاتير يبقى رحيماً لكي تصل رسالته بمحبة وبطريقة معقولة.
{ كيف ترى مستقبل الكاريكاتير في ظل تراجع الصحف الورقية وصعود المنصات الرقمية؟
- الميديا الجديدة، كما يقول الدكتور ثائر العذاري، نحن في «التطور الخامس». في المستقبل، سنتخلّى عن الكتابة لصالح الإيموجي، كما كانت الكتابات الهيروغليفية الفرعونية القديمة. الصورة داخل النص ستكون هي اللغة. الصورة تُختصر في الفيديو، وهي أسرع وسيلة للتلقّي. مثلاً، عندما تقرأين قصة لطفل، هو يستمع ويستمتع، بينما الكتابة تتطلب يقظة أكبر. الكتاب سيتحوّل إلى ميديا جديدة، والصورة ستنتصر لأنها أسرع في التلقّي.
{ هل شعرت بتردّد أو خشية حين رسمت وجهاً ارتبط في الوجدان العربي؟ وهل قمت بتلطيف ذلك؟
- لا أهتم مطلقاً برأي أحد. طوال سنوات الكلية، كانوا يقنعونني أنني «موهوب»، إلى أن اقتنعت أخيراً بذلك بعد سنوات طويلة. أصبحت أدافع عن الأشياء التي أؤمن بها، وأحمد الله أنني أشركهم فيها. وهذا ليس نابعاً من «الأنا» أو «الايغو»، بل هو واقع أنني أقدّم لهم جزءاً من روحي. قد يكون عدد البورتريهات التي رسمتها بين 400 و600 بورتريه، وهو ليس عدداً ضخماً، ولكن كل بورتريه له تأثير قوي جداً. لأن كل بورتريه خرج من دمي وروحي. لا أرخّص نفسي من أجل عرض أعمالي، ولكن في الوقت المناسب، الناس ستعرف. لا يهمّني النجاح أو الفشل. كتبت لفترة طويلة في مجلة «روز اليوسف»، وهي مجلة معروفة، وكنت أكتب بين 6 إلى 8 صفحات شهرياً مع الرسومات. كنت محظوظاً لأن هناك من يحب ما أكتبه وما أرسمه، ولكنني قليل جداً في نشر أعمالي، لأن الصمت بالنسبة لي مهم. بعض الكاريكاتيرات التي رسمتها قبل الثورة كانت تتنبأ بما سيحدث، ولكن ما يمنع من نشرها في الصحف، كنت أنشره على صفحة الـ«فايسبوك» تحت عنوان «ممنوع من النشر».