اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
حين تُفتح أبواب السجون، لا يعود المشهد حدثًا سياسيًا فحسب، بل إنه امتحان لإنسانيتنا. اليوم، مع إطلاق سراح دفعات من الأسرى الفلسطينيين ضمن اتفاق تبادل بين “حماس” وإسرائيل، يعود إلى الواجهة مشهد لا يمكن اختزاله في العناوين أو الأرقام.الأسرى العائدون ليسوا فقط أفرادًا خرجوا من العتمة، بل وجوهٌ تستعيد أسماءها بعد أن كادت تُمحى.فرحٌ غامر على وجوهٍ أنهكتها السنوات، ودموعٌ ثقيلة تختلط بين من استعاد ابنه حيًّا ومن استقبله جسدًا بلا روح. في هذه اللحظة، يذوب الفاصل بين السياسة والإنسان. في حضرة الأم التي تضم ابنها بعد عقد من الغياب، لا معنى للانتماء، ولا مكان للخصومة. الحرية هنا ليست شعارًا، بل لحظة تُعيد للإنسان وجهه، وصوته، وحقه في الوجود. غير أن المشهد الإنساني الذي نشهده اليوم في فلسطين لا يمكن أن يمرّ في الذاكرة اللبنانية مرور الكرام. فلبنان عرف وجعه الخاص، جرحه الذي لم يندمل منذ أكثر من أربعة عقود: المفقودون والمعتقلون في السجون السورية. على مدى سنوات الاحتلال السوري للبنان، من أواخر السبعينيات حتى عام 2005، اختفى مئات اللبنانيين في ظروف غامضة. لم تصدر أرقام رسمية، لأن النظام السوري أنكر باستمرار وجود معتقلين لبنانيين لديه.لكن بحسب اللجان الأهلية والمنظمات الحقوقية اللبنانية، فإن التقديرات تشير إلى أكثر من ستمئة معتقل لبناني اختفوا داخل الأراضي السورية، بعضهم مقاتلون سابقون في الجيش اللبناني أو “القوات اللبنانية”، وبعضهم معارضون للوجود السوري، وآخرون مدنيون اعتُقلوا على الحواجز أو نُقلوا قسرًا بعد توقيفهم في لبنان. في التسعينيات، كانت اللجان اللبنانية تتحدث عن أكثر من سبعمئة اسم موثّق، ومع مرور الوقت، تأكدت وفاة عدد منهم، فيما بقي مصير المئات مجهولًا.المنظمة اللبنانية للدفاع عن المعتقلين والمنفيين (SOLIDE) وثّقت شهادات أكثر من مئة معتقل أُفرج عنهم لاحقًا، أكدوا أنهم رأوا لبنانيين محتجزين داخل سجون سورية مثل تدمر وصيدنايا والمزة وفرع فلسطين في دمشق.ولجنة أهالي المعتقلين جمعت قوائم بأسماء ومشاهدات تطابقت في تفاصيلها، ما رجّح صدق تلك الشهادات، رغم النفي الرسمي السوري. حتى إنّ معتقلين سوريّين سابقين تحدّثوا عن لقائهم بلبنانيين داخل تلك السجون، وأكدوا أن هؤلاء كانوا يُعامَلون معاملة خاصة، قاسية، وغالبًا سياسية الطابع.السجون التي وردت في أغلب الشهادات - تدمر، صيدنايا، المزة، وعدرا العسكري - كانت تُوصف بأنها “مقابر للأحياء”.الظروف غير إنسانية، التعذيب ممنهج، والاختفاء التام هو القاعدة. ومع أن الأصوات ارتفعت مرارًا، من لجنة أهالي المعتقلين إلى المنظمة اللبنانية SOLIDE، ومن خلفهم الكنيسة المارونية والرابطة المارونية التي دعمت المطالب، إلا أن الصمت السياسي كان أقوى من كل النداءات.زارت الوفود دمشق مرارًا، تغيّرت الحكومات والرؤساء، ومرّ الزمن… لكن الأبواب بقيت مغلقة. لم يُكشف مصير أحد. لم تُسلّم جثة واحدة. وهكذا، بينما يشهد العالم اليوم صور اللقاء بين أم فلسطينية وابنها، يستعيد اللبنانيون وجعهم القديم: وجع الذين انتظروا ولم يسمعوا خبرًا، الذين دفنوا أعمارهم على أمل أن يعود اسمٌ في لائحة، أو وجهٌ في حلم. ففي لبنان، لم تنتهِ الحرب فعليًا. هناك من مات ولم يُدفن، ومن اختفى ولم يُنسَ.والوجع الذي يسكن العائلات لا يشيخ، بل يكبر مع الأيام، مثل نداءٍ لم يسمعه أحد. حين تُكسر قيود الأسرى الفلسطينيين اليوم، يعود السؤال اللبناني من تحت الركام:هل يمكن للحرية أن تكون ناقصة؟الإنسانية لا تتجزأ، ولا تُقاس بعدد الأسرى المفرج عنهم، بل بعدد الأمهات اللواتي بقين او رحلن وأعينهنّ على الأبواب.في غزة، يفتحون الأبواب للقاء، وفي بيروت، تبقى الأبواب نصف مفتوحة، كأنها تصغي لخطواتٍ لن تأتي. في هذا الشرق، يختلط الفرح بالحزن، ويُولد الأمل من رحم الغياب.فحين يُكسر قيدٌ في مكان، يرتجف قيدٌ في آخر.والحقيقة أن زمن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية لم يعد ملفاً مؤجلا، بل صار ملفاً مختوماً بالقهر وخطيئة الإهمال الرسمي. في النهاية، هل تُستعاد الحريّة بالذاكرة طالما لم تتحقق بقرارٍ سياسي.حتى اليوم ما زالت هذه الذاكرة تبحث عن وجوهها، وتحمل سؤالًا واحدًا لا يشيخ:من يعيد الغائبين؟