اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٣ تموز ٢٠٢٥
صورة للرئيس الراحل سليمان فرنجيه مرّت أمامي على وسائل التواصل، كُتب تحتها: 'أوعى لبنان'. لكنها لم تمرّ مروراً عادياً… فقد فتحت بوابة الذاكرة على مصراعيها، وأعادتني إلى ذاك المساء من ثلاث وثلاثين سنة، حين كنتُ وصديق العمر، المحامي الأستاذ بطرس سايد فرنجيه، ضيفين على فخامته في دارته بزغرتا.
كان الزمن مكلوماً، ولبنان يئنّ من جراح حربَيّ التحرير والإلغاء، بعد إستشهاد الرئيس رينيه معوض وقبل أشهر قليلة من تولي الرئيس الشهيد رفيق الحريري رئاسة حكومة الإنقاذ.
ورغم العتمة، كانت تلك السهرة مضاءة بكلمات رجل لا يشبه سواه.
كانت المناسبة عشاء 'المرفع'، في الأحد الأخير الذي يسبق زمن الصوم لدى الموارنة، وقد شاء القدر أن يكون ذاك المرفع هو الأخير في حياة الرئيس الراحل.
جلسنا إلى جانبه، إلى جانب السيدة الأولى 'الست إيريس'، وكان فخامته يُصغي إلينا، نحن الشابين في بداية مشوارنا المهني، حديثَي الإنتساب إلى نقابة المحامين، ثم يوجّهنا برزانته المعهودة إلى ما يجب أن نفعله، أن ننشر روح المواطنة في محيطنا، أن يكون ولاؤنا للبنان لا لسواه، أن نكون أبناء وطن لا أبناء طوائف.
لم يكن متفائلاً بالمستقبل، لكنه لم يشأ أن يُحبطنا.
وحين سألناه، نحن الشباب المتحمسون، عن بشائر قريبة، أجابنا بجملة اقتبسها من فيكتور هوغو 'المستقبل لله'… ثم أضاف، كما لو أنه يخاطب الوطن نفسه، 'لبنان باقٍ… باقٍ… باقٍ!'.
أنا نشأت في بيت عرف معنى القرب من فخامة الرئيس الراحل.
والدي، شاءت الظروف أن يدخل عام 1952 مكتب محاماة المرحوم حميد بك فرنجيه، شقيق الرئيس.
وبعد مرض حميد بك، أصبح والدي مستشاراً للرئيس سليمان فرنجيه منذ العام 1959 حتى وفاته.
لم تكن علاقة سياسية فقط، بل صداقة عمر، ورفقة وفاء، وولاء لوطن اسمه لبنان.
الرئيس سليمان فرنجيه كان أحد أعمدة السياسة والكرامة في هذا البلد.
رجل، حين يفوز بفارق صوت واحد في إنتخابات 1970، لا يقبل التلاعب.
يعقد حاجبيه، يبرم شفته، فيسكت الجميع.
فهموا الرسالة دون أن يقول كلمة… فقد كان وجهه وحده موقفاً سيادياً لا يحتاج إلى شرح.
رئيس المجلس يتّصل بالرئيس شارل حلو، و حلو يرد: أعلنوا النتيجة، صار لديكم رئيس جمهورية.
خلال توليه مقاليد الحكم دافع عن الشرعية حين كانت تُطعن من أهل البيت، وتمسّك بالدستور عندما اعتبره سواه مجرّد وجهة نظر. لم يهادن في الحق، ولم يساير في الثوابت، فكان صوته واحداً من الأصوات النادرة التي ارتفعت دفاعاً عن شرعية الدولة، لا عن شرعية الزعامات.
رجل، حين تفتشه الكلاب البوليسية في مطار نيويورك، لا يغضب ولا يفاوض.
يأمر الطيّار بتشغيل المحركات والعودة.
الأميركيون يعتذرون. الكرامة لا تُساوم.
وفور عودته إلى لبنان، استدعى سفير أعظم دولة في العالم، وأعطاه إجازة قسرية خارج لبنان، لأن فعلة إدارة بلاده الشنيعة لا تمرّ عنده مرور الإهانة العابرة… بل تُردّ بما يليق ببلدٍ اسمه لبنان، ورجلٍ اسمه سليمان فرنجيه.
رجل، حين تُعرض عليه 'هجرة' المسيحيين، يمد سبابته من النافذة ويقول: 'هل تستطيعون أن تنقلوا هذه الجبال؟'، ويُنهي اللقاء.
رجل، حين يُستفَز من كيسنجر أو ريغان أو شامير، لا يبحث عن العبارات الدبلوماسية.
يسمّي كيسنجر: السيّء الذكر.
وشامير: رجل الشؤم.
وريغان: السيد ريغان.
رجل، حين يعلو صوته، يعلو لبنان.
وحين يصمت، يصمت الجميع.
رجل، حين دخل في ١٣ حزيران ١٩٧٨ بيته في إهدن على جثث ابنه وعائلته، لا يصرخ، لا ينهار.
يسأل بهدوء صارم: 'ليش ذبحوا الطفلة؟ عمرها ثلاث سنين!'… ثم يقول: 'فدا لبنان'.
لا أحد يملك أن يقولها، إلا من خَبِر الحياة.
كان نجم مؤتمر جنيف، صوت العقل والصلابة في زمن الإنقسام، حين اجتمع الكبار: كميل شمعون، رشيد كرامي، بيار الجميّل، أمين الجميّل، نبيه بري، وليد جنبلاط… لكن الجميع كان يترقب ما سيقوله الرئيس الحقيقي للمؤتمر: سليمان فرنجيه.
رفض الخوض في أي شأن داخلي قبل أن تُلغى اتفاقية 17 أيار، ويُعلن بوضوح أن لبنان عربيّ الهوية.
حتى حين امتعض من الحاجز الإلكتروني في مدخل فندق المؤتمر، كاد ينسحب.
السبب؟ ذخيرة أهداها له المتروبوليت إيليا صليبي، لم يقبل أن ينزعها من عنقه… حتى لو كانت تُشعل أجهزة الإنذار.
هكذا كان الرجل: لا يخلع قناعاته، لا يغيّر جلده، لا يساوم على لبنان.
وكان، في بيته الزغرتاوي، يضفي على الحضور هيبة تشبه هيبة القصور، بل تفوقها.
صوت جهوري يصرخ 'فخامة الرئيس'، فيدخل بخطى ثابتة، يوزّع السلام بإشارة من يده وابتسامة سريعة. رجل من هيبة… رجل من خشب الأرز لا من غبار المكاتب.
اليوم، في زمن الأقزام، نفتقد زمن العمالقة.
كان زمن الرئيس الراحل سليمان فرنجيه زمن الأخلاق، لا زمن الميكيَفيلية. زمن كان فيه المسيحي يُنادي بعروبة لبنان، دون أن يشعر أنه يُفرّط بالسيادة. زمنٌ كان فيه الحوار شجاعة، لا ضعفاً، والمواجهة كرامة، لا تهوّراً.
سليمان فرنجيه لم يكن زعيم مرحلة، بل رجل دولة بمعنى الكلمة. رجلٌ يكرّس المعادلات ولا يُكرَّس بها. رجلٌ كان خصمه السياسي يثق به كما يثق به حليفه، لأنه لم يُبدّل ولم يُغيّر.
وفي ذكراه، لا نبكيه، بل نشتاقه… نشتاق زمناً كان فيه الكبار يحكمون، وكان لبنان يُحمى بالكرامة، لا بالوصاية.
سليمان فرنجيه… حاضرٌ في الوجدان، ودرسٌ في الوطنية الصافية. وما أشدّ حاجتنا إليه اليوم، لا ليحكم، بل ليذكّرنا كيف يُصان الحكم.