اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ٤ حزيران ٢٠٢٥
خاص الهديل….
قهرمان مصطفى…
مابين لحظاتٍ عابرة، ونقرةٍ وإيماءةَ، يُعيد الإنسان تشكيل فهمه للعالم.. لم نعد نبحث عن الحقيقة في الكتب، أو نُفتّش عنها في حوارات طويلة مع أهل الفكر والعلم، بل بتنا نستهلكها من مقطع قصير، أو لقطة مصمّمة بإتقان، أو عنوان صاخب يُحاكي مزاج اللحظة؛ ووسط كل هذا الضجيج البصري، تضيع الحكاية الأصلية.. 'حكايتنا.'
الهوية لم تعد تُمحى بالقوة، بل تُستبدل بهدوء، والوعي لا يُغتصب علناً، بل يُعاد تشكيله تدريجياً، على يد محتوى مدروس، وشخصيات افتراضية، وسيناريوهات 'مسلية' ظاهرها الترفيه، وباطنها هدمٌ ناعم. وما بين هذا المشهد المربك، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: هل نزال نملك صوتنا؟ أم أننا سلّمنا دفة الحكاية لغيرنا.. ورضينا أن يُعاد تشكيلنا بأيدي الآخرين؟
ما عاد المسجد وحده يبني القيم، ولا المدرسة ترسم ملامح الانتماء، ولا حتى الأسرة تضمن الثوابت. كل هذه المؤسسات، رغم أهميتها، لم تعد كافية.
دخلت منصات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي إلى عمق حياتنا اليومية، وأصبحت المصدر الأساسي لتشكيل المواقف والآراء، و'المصنع' الذي تُصاغ فيه القناعات الجديدة.
وفي غيابنا عن هذه الساحة، تُروى عنا حكايات لا تُشبهنا؛ تُقدَّم للعالم روايات مشوّهة سواء عن الإسلام، أو العروبة، أو المرأة، أو الأسرة، بل حتى عن تاريخنا، على أنها 'النسخة الصحيحة' منا. وتُصدّر هذه الصور إلى أبنائنا أنفسهم، فيكبرون وهم يشعرون بالعار من جذورهم، والاغتراب عن ذاتهم.
ولكنّ المشكلة ليست في نقص القصص، بل في عجزنا عن روايتها؛ فنحن نملك تاريخاً زاخراً بالشخصيات الملهمة، والمعارك الكبرى، والفتوحات العلمية، والنماذج الإنسانية؛ ولكن ما ينقصنا هو الرؤية.. رؤية إعلامية واعية، تملك الجرأة لتقديم هويتنا بلغة العصر، دون استعلاء ولا انكسار، وبأدوات تحترم عقل المتلقي وتخاطب قلبه.
أنفقنا المليارات على إنتاج مسلسلات وأعمال درامية تبتعد تماماً عن قيمنا، بل تُكرّس صوراً مشوّهة عنّا، تحت ستار 'التجديد' و'الواقعية'. والغريب أن كثيراً من هذه الأعمال تُعرض في رمضان، الشهر الذي من المفترض أن يكون مساحة للارتقاء الروحي والنفسي، لا ساحة للهدم البصري والمعنوي.
وفي المقابل، مسلسلات تركية تاريخية مثل 'قيامة أرطغرل' و'المؤسس عثمان' حققت انتشاراً واسعاً في العالم العربي، رغم ما فيها من تحيّز قومي واضح. لماذا؟ لأن المشاهد العربي متعطّش لهوية، يبحث عن قصة تمنحه الفخر، عن بطلٍ يُشبهه، عن حكاية تُشعره بالانتماء.. حتى وإن جاءت من غيره.
فلماذا لا نروي نحن قصصنا؟ لماذا لا نُنتج أعمالاً تحكي عن صلاح الدين، وابن سينا، وفاطمة الفهرية، وعمر بن عبد العزيز؟ لماذا لا نصوغ دراما تُجسّد صبر أمهاتنا، ونضال آبائنا، وعبقرية علمائنا؟ نملك المادة.. لكننا لا نملك القرار.
وعليه، لم يعد الصمت مقبولاً، ولا التبرير كافياً؛ المعركة تدور كل يوم، على الشاشة، في الهاتف، بين السطور. وإذا لم ندخلها بإعلام واعٍ، قوي، جذّاب، صادق.. فسنُروى على طريقة الآخرين.
وفي زمن الصورة.. إمّا أن تروي قصتك، أو تُروى بما لا يُشبهك. وبين الصورتين.. فارق لا يُستهان به.