اخبار لبنان
موقع كل يوم -الكتائب
نشر بتاريخ: ٢٥ أيار ٢٠٢٥
فور صدور القرار، ارتفعت التوقّعات بتدفّق رساميل خليجيّةٍ وأوروبيّةٍ إلى قطاعات الطاقة والزراعة والإسكان، وتعزّز التفاؤل بإمكان تثبيت سعر الصرف بعد سنواتٍ من التدهور القياسيّ للّيرة. لكنّ ما يغيب عن كثيرٍ من العناوين الإعلاميّة هو أنّ هذه الانفراجةَ ستظلّ انتقائيّةً ومشروطة، ولن تتحوّل تلقائيًّا إلى استعادةٍ شاملةٍ للعافية الاقتصاديّة السّوريّة. فالأزمة العميقة في البُنى الإنتاجيّة، وضعفُ شبكة الحماية الاجتماعيّة، وحجم الدمار الذي أصاب البُنى التحتيّة – كلّها تحدّياتٌ ستستنزف عشرات المليارات قبل أن تتيح دورة نموٍّ مستدامة. غير أنّ هذه 'المرحلةَ الانتقاليّة' نفسها توفّر للبنان فرصةً تاريخيّةً للخروج من أزمته المتفاقمة إن امتلك الإرادة والمؤسّسات القادرة على التقاط اللحظة بدل تركها تتبخّر كما حصلَ في فرصٍ كثيرةٍ سابقة.
ارتدادات رفع العقوبات مالياً
على الصعيد الماليّ، يمتلك لبنان تاريخًا طويلًا من التشابك مع المنظومة النقديّةِ السّوريّة. فمنذ دخول المصارف اللبنانيّة سوق دمشق عام 2004، استُخدمت بيروت منصّةً للتسوّق بالدولار والتغطية على العمليات التجاريّة الملتوية الّتي فرضتها قوائم العقوبات الدوليّة. ولمّا اشتدّت قبضة 'قانون قيصر'، تحوّلت شبكات الصرّافين الحدوديّين إلى 'مصرفٍ مركزيٍّ موازٍ' يموّل اقتصادي البلدين بالنقد الورقيّ ويعيد تدوير ما تبقّى من احتياطاتٍ شحيحةٍ لدى مصرف لبنان. اليوم ينزع قرار رفع العقوبات هذا القناع، ويخرج التعاملات من الأقبية الرماديّة إلى العلن: سيعاد وصل المصارف السّوريّة بالمراسلين العالميّين تدريجيًّا، وسيتاح للمصارف اللبنانيّة – رغم أزماتها البنيويّة – أن تُفعِّل أصولًا تقارب قيمتها مليار دولار داخل سوريا. لكنّ الاستفادة الفعليّة رهنٌ بقدرتها على استعادة الثقة العالميّة والخروج من دوّامة خسائرٍ تتجاوز 70 مليار دولار في ميزانيّاتها.
تجربة السنوات الفائتة دلّت على أنّ شُحّ الدولار في سوريا يعزّز الطلب عليه في السّوق الموازية في بيروت، رافعًا السعر على اللبنانيّين، فخلال سنوات الحصار اعتمد التجّار السوريّون على السوق اللبنانيّة لتأمين العملة الصعبة، ما زاد الطلب ووسّع تقلّبات سعر الصرف.. رفع العقوبات يفترض – نظريًّا – عكسَ هذه المعادلة: دخول تحويلاتٍ ومنح خارجيّةٍ إلى دمشق سيُضعف ضغط الشراء على الدولار في لبنان؛ غير أنّ هذا الأثر يبقى مشروطًا بتعافي الثقة في القطاعِ المصرفيّ اللبنانيّ وقدرته على اجتذاب الفوائض. وهنا تكمن المفارقة: لبنان نفسه موضوعٌ على 'القائمة الرماديّة' لمجموعة FATF منذ تشرين الأوّل 2024، ما يُقلِّص قابليّته لالتقاط تلك التدفّقات إذا استمرّت ثغرات غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
لكن، من جهةٍ ثانية، سيغري فارق السعر بين الليرتَين شبكات المضاربة بإحياء ممرّات القطع غير الشرعيّة، الأمر الذي يُربك جهود مصرف لبنان في تثبيت سعر صرفٍ هشٍّ أصلًا. ويصبح التنسيق بين حاكمي المصرفَين المركزيَّين ضروريًّا لضبطِ 'كلفة الفرصة': تنويع مُدخلات الدولار، وتوحيد آليّات التحقّق من مصدر الأموال، وغيرها.
ملفُّ اللاجئين: عودةٌ مشروطةٌ بخطةٍ واضحة
قضيّة اللجوء السّوريّ في لبنان تَظهَر بدورها كلاعبٍ خفيٍّ في ميزان المكاسب والخسائر. فمنذ 2012، يستقبل لبنان نحو المليون و700 ألف لاجئ، ما شكّل – وبعيدًا عن الخطابات الشعبويّة والمبالغات – ضغطًا اجتماعيًّا وبنيويًّا على خدماته العامّة الهشّة ونظامه التربويّ والصحّيّ. رفع العقوبات، إذا اقترن بانتعاشٍ اقتصاديٍّ حقيقيٍّ في الداخل السّوريّ، قد يفتح كوّةً في جدار العودة الطوعيّة، ويعيد توزيع اليد العاملة بين البلدين. لكن، حتى تتحوّل هذه الكوّة إلى ممرٍّ عريضٍ، ينبغي إقرار برنامج حوافز لبنانيٍّ – سوريٍّ – أمميٍّ يربط العودة بمشاريع إعادة الإعمار في مناطق المنشأ، ويوفّر للاجئين الضمانات الأمنيّة والخدماتيّة والعقديّة الّتي تقيهم من دورة لجوء أو نزوح جديدة.
هو مسارٌ طويلٌ ومعقّد، لن يكفيه رفع العقوبات ما لم يرفق بإصلاحٍ سياسيٍّ داخل سوريا، وبسياسةٍ لبنانيّةٍ جديّةٍ تُغرِّب ملفّ اللجوء السّوريّ عن المزايدات الداخليّة والسّياسات الغير إنسانيّة.
اقتصادُ التهريب: بين الانكماش والتحوّل
اقتصادُ التهريب، الذي ازدهر تحت مظلّة الحصار، ودفع بلبنان كما جارته سوريا لأن يُصبح دولةً مارقة، هو الآخر أمام مفترق. خلالَ أعوامِ التضييق، قُدِّر حجم الموادّ المُهرَّبة من لبنان إلى سوريا – محروقات، قمح، دواء – بأكثرَ من 1.5 مليار دولار سنويًّا، أي ما يوازي ثلاثة أرباع احتياط دعم السلع الأساسيّة الذي استنزفه مصرف لبنان. رُفع الدعم من دون إقفال المعابر غير الشرعيّة، فانتقل النزيف من الخزينة إلى جيوب المواطنين مباشرةً. اليوم، إذا لم يرفَق رفع العقوبات بضبطٍ ميدانيٍّ صارم، فقد تنشأُ دورة تهريب عكسيّة: سلعٌ مدعومةٌ سوريًّا تغرق الأسواق اللّبنانيّة بأسعارٍ تفاضليّة، أو دولاراتٌ آتيةٌ عبر قنواتٍ غامضة تسوَّق في صرّافات البقاع والشمال بأسعارٍ تفوق السوق الموازية. من دون حوكمةٍ ورقابةٍ جمركيّةٍ جديّةٍ ستتداخل التجارة الشرعيّة بالاقتصادِ الأسود.
الفرصُ التجاريّة واللوجستيّة أمام لبنان
على الرغم من أزماته الداخليّة، نجح لبنان في تصدير ما يزيد على 126 مليون دولار إلى سوريا في عام 2023، معظمها منتجات زراعيّة وسيارات، وهو رقمٌ قابلٌ لأن يتضاعف فور تسهيل التحويلات المصرفيّة وتعزيز سلاسل التوريد الزراعيّة والغذائيّة الّتي يتمتع فيها بميزة نسبيّة. يُضاف إلى ذلك أنّ مرفأ طرابلس، الذي لا يبعد سوى نحو 35 كلم عن الحدود السّوريّة، يوفر أقرب منفذ بحريّ لأسواق الداخل السّوريّ ويخفض كلفة الشحن مقارنةً بالموانئ المتوسطيّة الأخرى.
وقد أدّى إعلان واشنطن عن تخفيف العقوبات هذا الشهر إلى قفزةٍ لليرة السّوريّة، وهذا التحوّل النقديُّ الجاري في دمشق قد يفرز فائض تحويلاتٍ بالعملات الصعبة يبحث عن منفذٍ مصرفيٍّ آمن؛ والطلب المكبوت على السلع والخدمات بعد عقدٍ ونيف من الحرب يخلق هوامش عاليةً للأرباح يمكن أن تضخّ بعض الدم في شرايين الصناعة والزراعة اللبنانيّتَين. يكفي أن يظفر المقاولون اللبنانيون بجزءٍ صغيرٍ من خطة إعادة الإعمار السورية، إذ تشير تقديرات أممية إلى أنّ ما يزيد على 1.7 مليون مسكن يحتاج إلى ترميمٍ أو إعادة بناء، حتى يستعيد القطاع جزءًا معتبرًا من نشاطه المفقود. وهكذا يقف البلدان أمام نافذةِ فرصٍ قد تتّسع سريعًا، لكنّ نجاحها رهينٌ بقدرة بيروت على التفاوض كدولةٍ موحَّدة، وبإيجاد تمويلٍ موثوقٍ لإصلاح البنية التحتية، وبإنشاء إطارٍ قانوني سوري يطمئن المستثمرين بقدر ما يطمئن المواطنين.
الضغطُ الدوليّ
في هذا السّياق، يبدو الضغط الدوليّ – من صندوقِ النقد إلى واشنطن – سلاحًا ذا حدّين: فهو قد يُسعف لبنان في فرض أجندة إصلاحٍ على طبقةٍ سياسيّةٍ لا تتغيّر إلّا بالعصا الغليظة؛ لكنّه يهدِّد أيضًا بترك بيروتَ في العزلة إذا قرأ القادة الرسالة على أنّها 'شروط إذعان' لا خطوط مساعدة. وبصورةٍ أدقّ، يتقاطع القرار الأميركيّ مع ثلاثة مساراتٍ متوازية: إعادة دمج سوريا تدريجًا في النظام الماليّ العالميّ، تسهيل تدفّق الرساميل الغربيّة والخليجيّة نحو قطاعاتها المنهكة، واستخدام هذا الانعطاف أداةً للضغط على بيروت للإسراع في إنجاز إصلاحاتها والنظر جدّيًّا في ملفّ ترسيم الحدود مع إسرائيل. ومن هنا بدا تصريح الموفدة الأميركيّة مورغان أورتاغوس أقرب إلى 'كشفِ حساب' منه إلى مجرّد توصيةٍ دبلوماسيّة: بَسطُ سلطةِ الجيشِ اللبناني شمالَ الليطاني، واستكمالُ حزمةِ الإصلاحاتِ الماليّة، والاقتضاء بالنموذج السّوريّ لرفع العقوبات.
بين إدارة الأزمات واقتناص الفرص
إنّ أخطر ما في اللحظة الراهنة أنّها مرنةٌ وسائلة: يمكن أنّ تتصلّب باتجاه شراكةٍ إقليميّةٍ خلاّقة تُؤسّس لعقدٍ اقتصاديٍّ جديد، كما يمكن أن تنحدر إلى انفلاتٍ حدوديٍّ يعيد إنتاج ظواهر التهريب وغسل الأموال ويحمِّل الشعبين أعباء تضخّمٍ متبادلٍ وانهيارٍ نقديٍّ متتَالٍ. الفارق بين المسارين ليس في القرارات الدوليّة فحسب، بل قبل كلّ شيء في قدرة الدولة اللّبنانيّة على اتخاذ قرارٍ سياديٍّ واضح: الخروج من عقليّة إدارة الأزمات بالتسويف، إلى عقليّة إدارة الفرص بالتخطيط والشفافيّة. أمام هذا المفترق، لا يملك لبنان ترف الوقت: النافذة الّتي فتحت برفع العقوبات قد تغلَق في أيّ لحظةٍ إذا تبدّلت الموازين في الكونغرس الأميركيّ أو تعثّر مسار التسوية الخليجيّة، والأزمة النقديّة الداخليّة مرشّحةٌ للتفاقم مع كلّ شهر تأخير في إقرار خطّة التعافي.
لذا، يصبح الخيار الاستراتيجيّ واضحًا: إخراج السّياسة الاقتصاديّة من قبضة الاحترابِ السياسيّ، وإعادة تعريف العلاقة بسوريا على قاعدة مصلحةٍ متبادَلةٍ شفّافة. وإذا عجز، وهو احتمالٌ لا يقلّ واقعيّة، فلن تحتاجَ المنطقةُ سوى إلى أشهرٍ قليلةٍ كي يتجاوزَها قطارُ التسويات، فتغدو سوريا هي المنصّة الوحيدة لتلقّي الاستثمار والتدفّقات، تاركةً لبنان على هامشٍ رماديٍّ يقتات تهريبًا وينزف دولاراتٍ ويستورد أزمتَه الماليّة بلا أفق تعافٍ.
Subscribe to our kataeb.org Youtube Channel