اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
خاص الهديل…
قهرمان مصطفى…
في الشرق الأوسط لا تدور كل الحروب تحت ضوء الشمس، فثمة معارك أخرى أكثر هدوءاً لكنها أشد خطراً، وهي معارك المعلومة. في هذه الجبهة لا يُسمع صوت الرصاص، بل تُسجَّل المكالمات وتُراقَب التحويلات المالية وتُزرع البرامج التجسسية في هواتف الخصوم. وفي قلب هذا الصراع الخفي، تتقاطع تركيا وإسرائيل في حرب استخباراتية باردة تتشابك فيها ملفات غزة وسوريا والطاقة والممرات البحرية.
المهم أن نقرأ المشهد بمنطق المؤسسات لا بمنطق الصدامات العرضية. الصراع لم يعد مجرد اصطدام بين قوتين عسكريتين، بل هو اختبار لمدى نضج عقل أمني وما إذا كان قادراً على تنظيم اللعبة في المنطقة الرمادية. لإسرائيل تاريخ طويل في العمل الاستخباراتي عبر محيطها، لكن أنقرة التي نشطت في السنوات الأخيرة أكثر حذراً وأكثر جرأة في آن معاً، قررت أن تجعل من سيادتها خطاً أحمر لا تفاوض عليه حتى في ساحات التجسس الملتوية.
اللافت في السلوك التركي أنه لم يأتِ بردود سياسية صاخبة، بل بلغة هادئة ودقيقة عنوانها القانون والمعلومة. فبدلاً من التصريحات، جاء الرد على شكل عمليات استخباراتية محكمة، تتبع، فقبض، فملاحقة قضائية.
فخلال الأعوام الثلاثة الماضية، نفّذ جهاز الاستخبارات التركي (MİT) سلسلة من العمليات ضد شبكات مرتبطة بالموساد الإسرائيلي. ففي ديسمبر/كانون الأول 2022 كُشف عن خلية باعت معلومات عبر محققين خاصين، تلتها عملية أوسع في يناير/كانون الثاني 2024 شملت 34 متهماً بالتجسس، بعضهم خطط لمراقبة فلسطينيين مقيمين في تركيا وربما لمحاولات خطف. ثم في مارس/آذار 2024 أُوقف موظف حكومي سابق بتهمة تسريب بيانات مقابل المال، أعقبها في أغسطس/آب 2024 كشف شبكة مالية تعمل لصالح الموساد، وصولاً إلى اعتقال المحقق سرقان تشيتشك والمحامي طغرلهان ديب في أكتوبر/تشرين الأول 2025 بعد بيعهما معلومات سرية لجهات إسرائيلية.
هذه الوقائع ليست أحداثاً متفرقة، بل إشارات واضحة إلى تحوّل مؤسساتي في بنية العقل الاستخباراتي التركي، الذي لم يعد يتحرك كردّ فعل، بل ضمن استراتيجية متكاملة تقوم على الرصد المسبق والتحليل السيبراني والتنسيق بين الأجهزة.
وقد شكّل عام 2023 نقطة تحول مفصلية حين أعلن جهاز الاستخبارات تأسيس “الأكاديمية الوطنية للاستخبارات”، وهي مؤسسة تُدرّس علم الاستخبارات بمعناه الواسع: الأمن السيبراني، تحليل البيانات، علم النفس السياسي، حرب المعلومات وتاريخ الأجهزة الدولية.
هذه الأكاديمية لم تكن مجرد مشروع تدريبي داخلي، بل تعبير عن رؤية تركية جديدة تعتبر أن الاستخبارات ليست فنّ الخداع، بل علم إدارة الحقيقة. إنها منصة لإعداد جيل من العقول الأمنية التي تفكر بهدوء وتعمل بمنهجية بعيدة عن الانفعال، لأن تركيا تدرك أن الحرب القادمة – وربما الجارية فعلاً – هي حرب على الوعي والمعلومة.
ومن هنا، يمكن فهم فكرة نقل التجربة التركية إلى سوريا الجديدة ليس بوصفها وصاية، بل كشراكة أمنية مؤسسية. فالدولة السورية الخارجة من أزمتها تواجه تحديات وجودية: فلول النظام السابق، النفوذ الإيراني، النشاط الإسرائيلي، وبقايا التنظيمات الإرهابية. لذلك، فإن بناء جهاز استخبارات وطني حديث في دمشق لا يقل أهمية عن إعادة إعمار الحجر، لأن حماية الدولة تبدأ من بناء جهازها الأمني على أسس علمية.
تركيا اليوم تواجه إسرائيل بصمت، لكن بلغة مدروسة. فالموساد الذي اعتمد على وسائل اتصال مشفرة وتحويلات رقمية، وجد نفسه في مواجهة خصم قادر على اختراق شبكاته من الداخل. تلك المواجهة الهادئة هي ما جعلت أنقرة لاعباً يحسب له الجميع ألف حساب.
اليوم نحن أمام صراع استخباراتي طويل النفس، تتقاطع فيه المصالح وتُختبر فيه العقول. إسرائيل ترى في تركيا منافساً يملك نفوذاً متزايداً يمتد من ليبيا إلى القوقاز، فيما ترى أنقرة في إسرائيل لاعباً يسعى إلى خلط الأوراق عبر بوابتي غزة وسوريا. وبين هذين الإدراكين تدور حرب لا صوت لها، لكنها قد تكون الأشد تأثيراً في تحديد مستقبل المنطقة.