لبنان والحوكمة العالمية: نافذة للخروج من العزلة إلى الشراكة

قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إن 'إصلاح منظومة الحوكمة العالمية لا يعني هدم البيت القائم، بل تجديده بما يجعله أكثر عدلاً وإنصافاً ويستجيب لتطلعات جميع الشعوب'. هذا القول يشكل مدخلاً لفهم مبادرة الحوكمة العالمية التي أطلقتها الصين، بوصفها رؤية متكاملة لإصلاح النظام الدولي وجعله أكثر عدلاً وتوازناً، بعيداً عن الهيمنة الأحادية أو الإملاءات الأحادية، ومؤكدة على الشراكة والمصالح المشتركة لجميع الدول، كبيرة كانت أم صغيرة في إطار رؤية مجتمع المصير المشترك للبشرية.

حين أعلن شي جين بينغ عن المبادرة، لم يقدّمها بوصفها مشروعاً نظرياً أو شعاراً سياسياً، بل رؤية عملية قابلة للتطبيق، تقوم على خمس ركائز أساسية تشكّل الأساس لأي نظام عالمي أكثر عدلاً وتوازناً. الركيزة الأولى هي المساواة السيادية، التي تضمن لجميع الدول حقها في السيادة والاختيار، بعيداً عن الوصاية أو التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية. الركيزة الثانية تتمثل في احترام القانون الدولي، باعتباره المرجعية العليا في تنظيم العلاقات بين الدول، بعيداً عن ازدواجية المعايير أو القوانين المفروضة من طرف واحد. أما الركيزة الثالثة فهي التعددية، أي أن القرارات الدولية تُتخذ عبر التشاور والمشاركة، لا عبر الإملاء أو الهيمنة الأحادية. وتأتي الركيزة الرابعة لتؤكد أن الحوكمة العالمية لا تُقاس فقط بالمعايير السياسية والاقتصادية، بل أيضاً بقدرتها على أن تكون متمحورة حول الإنسان، بحيث يكون رفاه الشعوب والعدالة الاجتماعية محور الاهتمام، ويُؤخذ في الحسبان القضاء على الفقر وتحسين مستوى التعليم والصحة والحياة اليومية. وأخيراً، تطرح المبادرة العمل العملي والمخرجات الملموسة معياراً حاسماً، بحيث تتحول الخطابات إلى مشاريع ملموسة، وأهداف إلى نتائج يُمكن قياس أثرها على الأرض.

في هذا السياق، تبدو التجربة اللبنانية أمام تحدٍ وفرصة في آن واحد. لبنان، رغم أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة، يملك رصيداً حضارياً وثقافياً يؤهله للانخراط في النقاش العالمي حول مستقبل الحوكمة. فمنذ قرون، كان هذا البلد الصغير مساحة للتلاقي بين حضارات الشرق والغرب، ومختبراً للتنوع والتعايش، وهي خبرة يمكن أن تضيف قيمة حقيقية للحوار الدولي حول بناء نظام عالمي يقوم على الشراكة لا الإقصاء.

المبادرة الصينية تفتح أبواباً عملية أمام لبنان للخروج من مأزقه الحالي عبر مسارات التعاون التي تدعو إليها. تعزيز البنية التحتية، دعم التعليم، إدخال التكنولوجيا الحديثة، والانخراط في التجارة متعددة الأطراف، كلها عناوين مطروحة ضمن إطار الحوكمة العالمية. فإذا أحسن لبنان استثمار هذه الفرص، فإنه يمكن أن يعيد صياغة دوره الاقتصادي كمحطة وصل إقليمية ودولية، ويستعيد مكانته كمساحة للتواصل والتبادل بين مختلف الأطراف.

ولا تقتصر أهمية المبادرة على بعدها التنموي والاقتصادي، بل تتعداه إلى إعادة الاعتبار لفكرة التعددية الدولية، أي الاعتراف بحق جميع الدول، كبيرة كانت أم صغيرة، في المشاركة بصياغة قواعد اللعبة العالمية. وهذا البعد يمنح لبنان، الذي غالباً ما كان ضحية صراعات القوى الكبرى، فرصة للتموضع من جديد كفاعل في نظام أكثر توازناً وعدالة.

إن مبادرة الحوكمة العالمية، كما تراها الصين، ليست شعاراً سياسياً بل مشروعاً لإعادة تنظيم العالم بما يخدم الاستقرار والتنمية المشتركة. وإذا تمكن لبنان من قراءة التحولات الدولية بوعي والانفتاح على هذه الرؤية، فقد يجد في المبادرة إطاراً يساعده على تجاوز عزلته، وتحويل هشاشته إلى قوة ناعمة تؤهله ليكون جسراً للتواصل، لا ساحة للتجاذب والصراع.

هكذا يمكن النظر إلى الحوكمة العالمية، لا بوصفها مشروعاً بعيداً عن الواقع اللبناني، بل كفرصة واقعية لإعادة صياغة موقع بلد صغير في خريطة عالم يتغير بسرعة، عالم يبحث عن توازن جديد يقوم على الشراكة والعدالة لا على التفرد والهيمنة.