اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
لقد تعاقب على المنطقة عدة إمبراطوريات كان آخرها الإمبراطورية العثمانية والامبراطورية البريطانية. لقد تفككت الأولى بعد ضعف قلب 'الرجل المريض التركي' ما قاد إلى تقاسم الأراضي الواسعة التي كان يحتلها وذلك من قبل الفرنسي بالتفاهم مع الإمبراطورية البريطانية. وهذه الأخيرة (البريطانية) خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة، ولكن منهكة اقتصادياً وعسكرياً؛ ولذلك عقدت صفقة مع 'المارد الأميركي الصاعد' حينها، كي يسيطر هو بدلاً منها على مستعمراتها الواسعة حتى لا يسيطر عليها الاتحاد السوفياتي لحظة انسحابها الاضطراري منها، لأن بريطانيا لم تعد لديها لا القدرة الاقتصادية ولا فائض القوة العسكرية للبقاء فيها وتحمّل أعباء إدارتها.
ومنذ تلك اللحظة أصبح العالم بجزء كبير منه تحت الهيمنة الأميركية العسكرية والاقتصادية التي يديرها من خلف الستارة العقل الإمبراطوري البريطاني العريق المنسحب لأسباب اقتصادية من مستعمراته.
ومع الوقت تحولت أميركا إلى إمبراطورية غير مسبوقة في التاريخ، سواء من حيث حجم قوتها أو من حيث نوعية الهيمنة التي تمارسها على العالم؛ ذلك أن كل الامبراطوريات السابقة توسعت من خلال احتلال أراض وبلدان، إلا الإمبراطورية الأميركية التي تتوسع عبر الهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية على بلدان العالم، وليس من خلال التواجد العسكري المباشر فيها..
ومناسبة هذا الكلام حول استعراض تاريخ المنطقة مع قرنين إثنين من العلاقة مع الامبرطوريات؛ هو أن الولايات المتحدة الأميركية تتجه في هذه المرحلة كي تعطي إسرائيل وكالة حصرية لتمثلها كوكيل عنها بالهيمنة الإمبراطورية على المنطقة؛ وعليه فإنه ليس مطلوباً من إسرائيل أن تحتل كل/ أو معظم دول الشرق الأوسط حتى تثبت نفسها كقوة إمبراطورية وحيدة في المنطقة؛ بل المطلوب منها أن تتظلل بنموذج الإمبراطورية الأميركية التي تهيمن ولا تحتل؛ وتسيطر ولا تتواجد مباشرة.
وفي هذا السياق لا يختلف إثنان في المنطقة على أن إسرائيل بضألتها البنيوية لا تستطيع أن تؤدي دوراً امبراطورياً في المنطقة؛ ولكنها تستطيع أن تمثل الإمبراطورية الأميركية في المنطقة؛ وهذا الدور الجديد لإسرائيل يناسب الإمبراطورية الأميركية الترامبية (نسبة لترامب)؛ والسبب هو أن العقيدة الاستراتيجية الترامبية ترى أن الأولوية على سلم أهدافها اليوم هو حسم الحرب الداخلية الأميركية؛ أي استخدام الحسم ضد أعداء الترامبية داخل الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم – وبعد الانتهاء من هذه المهمة الداخلية – التفرغ للحسم مع الأعداء الخارجيين وعلى رأسهم الصين وبدرجة تالية روسيا وايران.
.. ولكن من هم أعداء ترامب أو الترامبية داخل الولايات المتحدة الأميركية؟؟
يجيب المفكر السياسي الشهير فوكوياما عن هذا السؤال حيث يحدد أعداء ترامب بمعسكرين رئيسيين إثنين على الأقل؛ وهما أنصار الليبرالية الجديدة وأيضاً أنصار 'الليبرالية المستيقظة'.
.. لا يتسع المجال في هذه العجالة لإدراج تفصيلات حول هذه الليبراليات التي صعد نجمها في العقدين الأخيرين وسيطرت مفاهيمها على المؤسسات الأساسية في الإدارة الأميركية وفي الجيش والتعليم الأميركيين، الخ.. والمهم هنا الإشارة إلى أن ما يفعله ترامب اليوم هو 'تطهير' بنى الدولة في أميركا من أنصار ومفاهيم هذه الليبراليات ذات النزعة اليسارية من جهة، والمتصادمة من جهة ثانية مع مفاهيم الليبرالية الكلاسيكية التي تبنتها الولايات المتحدة الأميركية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي شكلت الأساس التي قامت عليه علاقة أميركا بأوروبا.
تحتاج الترامبية الإمبراطورية الأميركية إلى وكلاء في العالم يحرسون هيمنتها خلال مرحلة تفرغها لحسم الصراع داخل الولايات المتحدة الأميركية؛ وكل ما يفعله نتنياهو هو أنه يقوم بتعبئة هذا النقص الاستراتيجي الموجود في أجندة حركة ترامب الخارجية الاستراتيجية.. وكما يقول عنه أوباما: فإن إحدى ميزات قوة نتنياهو في الولايات المتحدة الأميركية تكمن في أنه يملك معرفة كبيرة بشبكة أعصاب القوة والضعف داخل آلية القرار الأميركي..
.. طبعاً تشابك المصالح بين إسرائيل وأميركا شائكة وكبيرة؛ ومع الوقت أخذت تصبح مصالح تاريخية؛ ولكن جديدها الذي لا يتنبه إليه العرب اليوم هو هذه السمة الجديدة التي يمكن تلخيصها بالعبارات التالية: استغلال نتنياهو لفرصة أن الترامبية غارقة في صراع أو حتى في حرب داخل الولايات المتحدة الأميركية؛ وكون 'الايباك' جزء من البنى السياسية والمالية الأميركية فإن ترامب بحاجة إليه في معركته الداخلية؛ وكون نتنياهو أثبت لترامب أنه يستطيع الهيمنة على المنطقة فيما لو دعمته واشنطن فإن الترامبية لن تمانع في أن تحل الإمبراطورية الإسرائيلية مكانها كوكيلة للامبراطورية الأميركية الترامبية المشغولة في هذه المرحلة بتعزيز مكانتها الداخلية، وهذه مهمة لها مرتبة أخطر من حرب من وجهة نظر ترامب ومن معه من الأميركيين!!.