اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ١ أيلول ٢٠٢٥
كتبت منى فياض في 'اللواء':
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وتوسّعها نحو الجنوب اللبناني جراء حرب الإسناد، تحوّلت بيروت مجدّداً إلى محطة إلزامية لوفود دبلوماسية غربية وأميركية. زيارة توم برّاك والوفد الأميركي الأخير ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. لكن اللافت أن هذه الزيارات تحمل في ظاهرها شعارات «دعم الجيش، وحماية الاستقرار، وتعويض المقاتلين»، لكنها تتقصد أيضاً تثبيت موازين القوى بما يضمن أمن إسرائيل ويُبقي لبنان في مدار التجاذبات الدولية.
في المقابل، يقف حزب الله متمسّكاً بسلاحه تحت شعار «المقاومة»، غير أن هذا السلاح لم يعد يحرّر أرضاً، بل يكرّس الاحتلال ويُعطي لإسرائيل ذريعة للاستمرار في تجاوزاتها واعتداءاتها. وبين الموقف الأميركي المحسوب، وموقف الحزب المسلح عقائدياً وعسكرياً من النظام الإيراني، تضيع الدولة اللبنانية الهشّة، التي أثبتت من جديد أنها لا تزال عاجزة عن ممارسة أبسط مهامها في منع الفساد. وآخر الأدلة ظهر مؤخراً في قضية طلب الإفراج عن رياض سلامة، الحاكم السابق لمصرف لبنان والمتهم الأبرز في انهيار البلاد المالي.
أميركا والعودة إلى «الوصاية الناعمة»
تُظهر واشنطن أنها تحاول مساعدة لبنان. لكن التدقيق في الخطاب الأميركي يظهر أن الأولوية الحقيقية ليست متعلقة (فقط) بإنقاذ الشعب اللبناني، بل بترتيب حدود الشمال الإسرائيلي. الحديث عن «خطط للجيش اللبناني، وتعويض مقاتلي الحزب، ومنطقة اقتصادية جنوبية» ليس سوى إعادة صياغة لسياسة قديمة: إيجاد عازل أمني لإسرائيل.
التاريخ هنا يعيد نفسه. فمنذ اتفاقية الهدنة عام 1949 مروراً بالقرار 425 عام 1978، ثم القرار 1559 عام 2004 والقرار 1701 عام 2006، كان لبنان يُعامل دائماً كـ«ملف حدودي»، لا كدولة ذات سيادة كاملة. وما يطرحه الأميركيون اليوم ليس استثناءً، بل امتدادا لمنطق «الوصاية الناعمة» التي تُبقي لبنان مرتهناً بين المساعدات المشروطة والتهديدات المستترة.
حزب الله… مقاومة تتآكل
في المقلب الآخر، يستند حزب الله إلى رصيد «المقاومة» الذي بناه منذ الثمانينات، ويستحضر انتصار 2000 وحرب لو كنت اعلم في 2006 ليبرّر استمرار سلاحه. لكن الواقع تغيّر جذرياً. فالمقاومة التي كانت ذات يوم خياراً جامعاً لتحرير الأرض، تحوّلت اليوم إلى عبء سياسي وأمني يهدّد السلم الأهلي.
المفارقة الكبرى أن التمسّك بالسلاح لم يعد يحمي لبنان، بل يُبقي الاحتلال جاثماً على أرضه. إسرائيل نفسها تعترف بأنها تستفيد من هذا السلاح لإبقاء الحدود في حالة توتر دائم، ما يمنحها شرعية للاستمرار في الاعتداءات. بل أكثر من ذلك، تحوّل السلاح إلى أداة نفوذ داخلي تُقوّض الدولة وتشلّ مؤسساتها ووظيفتها تعطيل المحاسبة القضائية.
الدولة الغائبة… وفضيحة القضاء
وسط هذه التجاذبات، كان يمكن للدولة اللبنانية أن تكون الحكم، لو امتلكت مؤسسات قوية وقضاء مستقل. لكن الإفراج عن رياض سلامة، رغم الملفات القضائية المتراكمة بحقّه، شكّل صفعة إضافية لهيبة القانون. الرسالة واضحة: لا عدالة في لبنان، بل منظومة تحمي رموزها مهما بلغت فضائحهم.
بهذا المعنى، يفقد خطاب الأميركيين عن «دعم الجيش والقانون» قيمته، ويصبح خطاب حزب الله عن «حماية الوطن» مجرد شعار. فكلاهما يتجاهل أن أساس أي دولة حقيقية هو قضاء مستقل وعدالة نزيهة. وما دامت العدالة رهينة الصفقات، سيبقى لبنان غارقاً في دوامة الفوضى.
في زمن كهذا، قد يبدو مستحيلا اتخاذ موقف «عاقل». فمن يصطف مع الأميركيين يُتَّهم بالخيانة، ومن يصطف مع الحزب يُتَّهم بالمشاركة في تدمير الدولة، ومن يصمت يُتهم بالاستسلام. لكن العاقل لا يُقاس باصطفافه مع محور ضد آخر، بل بتمسّكه بمبدأين بسيطين:
السلاح بيد الدولة وحدها.
القضاء فوق الجميع.
أي نقاش آخر حول المشاريع الاقتصادية، أو التعويضات، أو المظلّات الدولية يبقى تفاصيل ثانوية. فدون حصر السلاح بيد الدولة لا سيادة، ودون قضاء مستقل لا عدالة، ودون الاثنين لا وطن.
هذا الموقف قد يبدو ضعيفاً اليوم أمام ضجيج الشعارات، لكنه وحده القادر على أن يؤسس لغد مختلف. وما لم يتبناه الرأي العام بقوة، سيبقى لبنان ساحة للآخرين، لا وطناً لأبنائه.