اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
في العام الثالث للهجرة، وبينما كان الإسلام كقوة سياسية لا يزال طري العود، دارت رحى معركة بين جيش المسلمين بقيادة النبي، وبين قبيلة قريش القوية، عرفت بـ غزوة أُحُد، بعدما اتخذ النبي من جبل يحمل الاسم نفسه على تخوم المدينة المنورة ساترًا دفاعيًا.
تحتل هذه المعركة موقعًا مركزيًا في الموروث الإسلامي لما فيها من عِبَر، منها حرص النبي على أن يكون القتال خارج المجتمع المديني، والتي يحاجج بها المسلون ضد حماس وتهورها، وفيها خسر المسلمون انتصارًا كان في يدهم، وتعرضوا لمحنة شديدة، بلغت حد إصابة النبي. في تلك اللحظة العصيبة، دعا النبي قائلًا: اللهم لا يعلون عليك، لا قوة لنا إلا بك، فنزل قول الله تعالى في سورة آل عمران ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون.
الشاهد أن هذا الدعاء وهذه الآية يتم استحضارهما بشكل مكثف في زماننا على وقع تراكم المحن والخيبات عند المسلمين سنة وشيعة، ولا سيما مؤخراً. من الزلزال الذي نزل بـ حزب الله وشيعته وصولاً إلى إيران، الدولة المركزية الشيعية، إلى انفلاش الصراعات في سوريا، وتمدد آثارها إلى لبنان، والتي تتجاوز فكرة الوجود الديموغرافي، لتتصل بالتأثير السياسي وقيمه المتغيرة ضمن قواعد لعبة يعاد تشكيلها بالدم. تتخذ هذه الصراعات طابعًا مذهبيًا شديد الكثافة والتركيز، ضمن لوحة كبرى عنوانها الصراع التاريخي السني – الشيعي بكافة أشكاله وقيمه وتحولاته حسب موازين القوى الدولية والجماعاتية، حيث تشحن الغرائز وتستحضر الرمزيات.
ذلك أن الموحدين المعروفين بـ الدروز، هم في الأصل جماعة ولدت من رحم الإسماعيلية ودولتها القوية الفاطمية، المنسوبة إلى فاطمة الزهراء ابنة النبي، والتي لها مكانة مميزة في الموروث الشيعي. والإسماعيليون، كما العلويون وجماعات أخرى، ينتسبون إلى الشيعة، وكانوا أكثر قوة وانتشارًا خلال بعض الحقب التاريخية، من الإماميين أو الإثنا عشرية، التي يلتصق بها مصطلح الشيعة في التاريخ المعاصر، نتيجة توسع انتشارهم وتنامي قوتهم السياسية.
بيد أن المثير في حمأة توهج الصراعات هو موقف حزب الله كجماعة راديكالية شديدة الغلو، ليس تجاه السنة فحسب، بل كذلك إزاء الموحدين والعلويين، وما يتسم به من استعلاء ممزوج بعوامل تكفيرية، يتمأسس حول مفهوم الجماعة الناجية الشديد التماهي مع شعب الله المختار، فيما تندرج الفرق الشيعية الأخرى ضمن الفئات الباغية.
وإذا كان هذا الموقف يحضر في السخرية من مصاب الموحدين، بمفعول انتقامي رجعي يتدثر بحادثة شويا، ويتصل بكيفية التعامل معهم إبان غزوة 7 أيار وإعمال القتل فيهم، إلا أنه يبرز بصلافة أكبر في التعامل مع العلويين، واعتبارهم جماعة مارقة، حتى أيام نظام بشار الأسد، مع الإصرار على نشر التشيع الإثنا عشري بنسخته الأكثر تطرفاً في مناطق الثقل العلوي في سوريا، بالحديد والنار، واستسهال الاعتداء على نسائهم، عن تناول اللحم في مطاعمهم لعدّه حرامًا! والأمر نفسه إنما بنسخة مخففة يحدث في بعض القرى في عكار وطرابلس.
ذروة سنام هذا الموقف تتبدى في تحويل العلويين إلى دروع بشرية، مع احتضان بعض القيادات العسكرية والميليشيوية، مثل مقداد فتيحة وغيره، بغية إعادة استخدامهم كأداة انتقامية من النظام الناشئ، وتقويض عملية ترميم النسيج الاجتماعي في سوريا، رغم إدراكه المسبق بمآلات هذا السلوك، الذي رام توظيف الجرح العلوي للطعن في مشروعية الرئيس أحمد الشرع ووضعه تحت ضغط دولي. وحينما وقعت الواقعة، امتنع الحزب عن تقديم يد العون إلى الجماعات العلوية النازحة، ولم يستغل نفوذه داخل الدولة لممارسة ضغط جدي في الإحاطة بمآسيهم، بينما أنشأ مخيمًا من البيوت الجاهزة في الهرمل لإيواء شيعته وتكفل بتأمين احتياجاتهم.
يعبر هذا النهج عن خبث يرتدي قناع المظلومية، يعتمد شعار اللهم لا يعلون عليك ويعني مشروعه، يتفنن في استخدام الدروع البشرية من الجماعات الشيعية الأخرى، ويواسي جمهوره ومنهم أبناء المخيم إياه بالآية السالفة الذكر، ويمعن في توظيف مشاعر الخوف من فقدان الحظوة السياسية الممزوجة بترويج توحّش السنة، في محاولة لمنح بعض الأوكسيجين لهلال شيعي تكفيري كلما اقتربت نهايته زادت وتيرة سفك الدماء.
وإذا كان التعويل على حنكة وليد جنبلاط لاحتواء أبواق تؤجج الفتن عند الموحدين، فإن العلويين في لبنان يبدون أقل تأثرًا بالمناخات السائدة، بعدما نجحت الجهود المبذولة من بعض النخب السنية ودار الفتوى، وتلاقت مع جهود تبذلها نخب علوية للتأكيد على مرجعية الدولة وحدها كضمانة لأمنهم الاجتماعي.
ثمة توجه يتفاعل منذ مدة في الأوساط العلوية للخروج من إسار الحزب وطي صفحة الأسد، يتوكأ على مواقف النائب حيدر ناصر العالية السقف ضد الحزب، في موازاة تشجيعه العلويين على التقارب مع السنة، وتفعيل آليات اندماج واقعية مع الدولة عبر قنواتها الشرعية من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة لتحصيل الحقوق، لإبعادهم عن القنوات الاستعلائية التي لم تعطهم سوى رموز ميليشيوية تستثمر في دمائهم. بالتوازي مع جهود يبذلها في عكار النائب أحمد رستم من خلال تحالفه مع النائب وليد البعريني تصب في الإطار نفسه. لا يزال هذا المسار في بداياته لكنه نجح في مراكمة مجموعة من الخطوات الجدية التي يمكن تطويرها لتخفيف حدة الشعور بالمظلومية.
مقابل مظلومية سنية تجددت على وقع صعود نجم أحمد الشرع وما يتمتع به نظامه من عصبية سنية بارزة، ترى في ما يجبهه من تحديات وصراعات حربًا دينية، فتلهج في الدعاء اللهم لا يعلون عليك. هذه المظلومية يسهم النهج المتبع من مؤسسات الدولة في رفع منسوبها وما تتسم به من طابع انفعالي انفصالي، نتيجة رؤيتهم حرية بعض الأبواق في التعرض لرموزهم وترويج الفتنة، فيما سيف الاضطهاد الأمني والقضائي ماثل فوق رؤوسهم، مع ارتفاع وتيرة الاعتقالات والاستدعاءات الأمنية ضدهم وحدهم.