اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٢ أب ٢٠٢٥
المصاب 'صبح': كانت لحظات عصيبة وكان القصفُ مفاجئًا
شقيق أنس الشريف: رفض عروض سفره وعائلته وكان يعتزم عدم النزوح من غزة
بقع دماء وبعض الخبز، بقايا معدات وأسلاك، وخيمة ممزقة شاهدة على آخر اللحظات التي عاشها الصحفيون الشهداء قبل استهدافهم، في لحظة جمعتهم مائدة طعام غمست بدمائهم، سبقها تغطية متواصلة أمضوها طوال اليوم متواجدين في الميدان، يوثقون الجرائم ويواكبون الأحداث المتسارعة، لحالات الوفيات نتيجة التجويع وسوء التغذية والمجازر المتواصلة بحق الأهالي ومنتظري المساعدات.
من داخل خيمة عاش فيها أنس الشريف ومحمد قريقع التجويع والألم، كانا عينا لقطاع غزة، وآهاته، نقلا صورًا حيّة عن الجوع والتشرد والمجازر والعطش، كانا دائمًا في قلب ميدان التغطية واستشهدا فيه في لحظة اختلطت دماؤهم مع بقية الزملاء لتختم رسالتهم الأخيرة بالدم، في زمن انقلبت فيه المعايير وأصبح الشاهد شهيدًا، وناقل الخبر الخبر نفسه، وباتت الكلمة في مواجهة الصاروخ، في معادلة غير متكافئة تفرضها نازية العصر.
في آخر ظهور له خرج الزميل قريقع ببث مباشر عبر صفحته على 'فيسبوك' وتحدث فيها عن التجويع وتطورات الأحداث الميدانية في ضوء تهديدات الاحتلال بالسيطرة الأمنية على غزة، ولم يدركِ أن تهديدًا قريبًا منه يحوم في السماء.
وداع مؤلم
في جنازة التشييع بمجمع الشفاء الطبي، لم تكن عيون الصحفيين تلتقط صورًا بل كانت غارقة في دموع مثقلة بالفقد والحزن، يحملون كاميرات وهم يصدحون مرددين: 'بالروح بالدم نفديك يا شهيد'، معاهدين زملائهم الشهداء بالسير على طريقهم ومواصلة التغطية، والدفاع عن الحقيقة التي حاول الاحتلال فقأ عينها باستهداف الزملاء، أنس الشريف ومحمد قريقع، ومؤمن عليوة، وإبراهيم ظاهر، ومحمد نوفل، ومحمد الخالدي.
يقف المصور الصحفي عامر السلطان بداخل الخيمة الممزقة، يتحرك أمامه مشاهد رآها أمام عينيه لحظة الاستهداف، يروي لـ 'فلسطين أون لاين': 'كنت في خيمة قناة 'الكوفية' المقابلة لخيمة قناة الجزيرة، سمعنا صوت انفجار مفاجئ، فخرجت من الخيمة، وكان زميلي محمد صبح مراسل الكوفية مصابًا بقدمه وظهره. خرجت ووجدت الاستهداف لخيمة الجزيرة، ركضت مسرعًا، ووجدت الزميل أنس الشريف ممددًا على الأرض خارج الخيمة شهيدًا'.
وأضاف ' دخلت الخيمة ووجدت النار تشتعل بالزميل محمد قريقع وبدأنا بسحبه وإطفاء النار، وأدخلناه للمشفى وكان لا يزال يتنفس ثم استشهد لاحقا، كان الزميل نوفل مقطوع الرأس، أما الزميل عليوة فكان يجلس على الكرسي ومن شدة الشظايا استشهد على الفور، واستشهد بخيمة نقابة الصحفيين الزميل محمد الخالدي وكان مصابا استشهد بعد نصف ساعة متأثرا بإصابته بنزيف داخلي'.
يؤكد سلطان 'خسارتنا كبيرة أن نفقد اثنين من أفضل المراسلين في غزة، كانا ينقلان الصورة للعالم عن حجم الدمار والألم والمجاعة، وصارا هما الخبر والصورة والحدث بعدما كانا ينقلانه'.
ورغم كل المشاهد لوداع الصحفيين التي يراها سلطان، والتي يهدف الاحتلال من خلالها لبث الرهبة والخوف في نفوس الصحفيين، إلا أن ذلك لا يدفع الصحفيين للتراجع، قائلا بنبرة تحدي: 'مهما حاول طمس الصورة والصوت سنبقى في الميدان، لإخراج الصوت وإظهار ظلم الاحتلال'.
فصلت لحظات بين تواجد الكاتب والمحلل السياسي تيسير محيسن بالخيمة بعد مقابلة صحفية أجراها، ثم تحدث مع الزملاء، وبين استقباله لخبر استهدافهم، يقول لـ 'فلسطين أون لاين' من أمام الخيمة التي كانت تنبض بالحياة وروح العمل أمس: 'شاهدت محمد قريقع وسألته، عن سبب تواجده في هذا الوقت، مع أن دوامه انتهى، فأخبرني أنه سيظهر ببث مباشر ثم سيغادر، كانت لحظات فارقة منذ أن كنت بجوار هؤلاء الشباب الرائعين المبدعين'.
ويؤكد محيسن، أن الاحتلال يحاول باستهداف الصورة والكلمة وطمس الحقيقة وتمييع الصورة أمام المجتمع الدولي، لأن هؤلاء الزملاء هم من عروا جيش الاحتلال وكشفوا زيف وأكاذيب روايته، وفضحوه على رؤوس الأشهاد، مشددًا، أن العالم مطالب بالوقوف على قدم واحدة ليقول لهذه الاحتلال 'كفى' ويتوقف عن الشجب والإدانة والاستنكار والمطالبة، لأنها كلمات جوفاء لم تعد تسمن ولا تغني من جوع.
كانت يافا أبو عكر توثق تقريرًا عن الجريمة، وبالأمس القريب كانت تمر على الخيمة المكتوب على بابها 'هنا الحقيقة'، تتأمل بعيون دامعة مشاهد الدماء، وبقايا فراش ممزق، ومكان كان شاهدًا على تفاني الزملاء الشهداء في العمل بالرغم من الجوع والألم وقسوة واقع التغطية الميدانية، والتهديد المستمر من قبل الاحتلال باستهدافهم، وتقول: ' استهدافهم لن يثنينا عن التغطية وسنواجه الاحتلال بصوتنا وقلمنا'.
'أوصيكم بفلسطين'
في وصيته قال الشهيد الشريف: 'يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهد وقوة، لأكون سندا وصوتا لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقة وحارات مخيم جباليا للاجئين، وكأن أملي أن يمد الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان (المجدل) لك مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ'.
وأضاف 'عشت الألم في كل تفاصيله، وذقت الوجع والفقد مرارا، ورغم ذلك لم أتوان يوما عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تحرك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنًا، ولم يوقفوا المذبحة التي يتعرض لها شعبنا، أوصيكم بفلسطين، درة تاج المسلمين ونبض قلب كل حر في هذا العالم'.
سبق الاستهداف حملة تهديد من قبل جيش الاحتلال لأنس الشريف، بعد انتشار فيديو مؤثر له وهو يبكي بسبب حالة التجويع، يقول شقيقه محمود الشريف لـ 'فلسطين أون لاين': 'التهديدات كانت توحي بأمر ما، وكانت جدية، لم يكن أخي بمكان سري بل كان في خيمة عمله يمارسه مهامه، ولم يتراجع عن التغطية بسبب التهديدات'.
عن آخر اتصال جمعه بشقيقه، أضاف: 'تحدثنا عن خطط الاحتلال بالسيطرة على غزة، وأنه يمكن أن يحدث نزوح للناس، فسالته: 'هل ستغادر لجنوب القطاع؟'، فرد علي بنبرة إصرار: 'لو كل الناس طلعت من غزة، أنا مش حطلع'، مشيرا، إلى أنه تلقى عروضا للسفر هو وعائلته من غزة مع تسهيلات، لكنه قابل ذلك العرض بـ'رفض قاطع'.
تحولت خيمته، لمزار يومي من مئات المحتاجين والفقراء والمرضى ومن لديهم مناشدات، عايش شقيقه جانبًا من التحام شقيقه مع هموم أبناء شعبه الذين كان صوتًا وعينًا لهم: 'كان يمر عليه أعداد ليست بسيطة من الناس، اليوم في المقبرة كان أحدهم يهتف عن دور أنس في إطعام المجوعين، ويقول: 'الصغار يدعولك'، رأينا حب الناس له والتفافهم على مفترقات الطرقات والشوارع، الجميع حزين على رحيله'.
لم تولد شجاعة أنس الفريدة في التغطية في هذه الحرب فقط، بل لازم ذلك مسيرته منذ البداية، فخلال مسيرات العودة كانت وسائل إعلامية دولية تنقل صورا ، ويتابع شقيقه: 'في هذه الحرب أصبح جسورا أكثر، وكان يقول: 'طالما أظهر على أكبر قناة إعلامية، فيجب أن أوصل معاناتهم وصوتهم للعالم'، لذلك كان صوتًا للناس وعينًا لغزة'.
قبل لحظة القصف، جمع لقاء استمر عدة دقائق بين مراسل الكوفية محمد صبح، وزميله قريقع، تبادلا الحديث عن الأحداث بحي الزيتون، وخطاب بنيامين نتنياهو الذي حمل تلميحات ببدء خطة اجتياح مدينة غزة، وغادر لخيمته المقابلة لخيمة الجزيرة، وما أن سلم على زملائه عندما أشارت الساعة إلى الحادية عشرة وعشرين دقيقة مساء الأحد، سقط أرضًا، حاول النهوض مرة ثانية، فسقط، من صوت المصابين وصراخ الشباب تأكد بوجود قصف، وإصابته بقدمه التي كانت تنزف، ونقل لداخل مشفى الشفاء.
يتمدد صبح على السرير الطبي مصابًا، بعد إضماد الجرح، لكن شيئًا في قلبه ظل ينزف، يروي لـ 'فلسطين أون لاين': 'رأيت الزميل قريقع محترقًا، عندما رأيته نسيت إصابتي، أخبرني الطبيب أنه سيقوم بعلاجي بعد علاج محمد، وطلب من الممرضين وقف نزيف قدمي، اعتقدت أنها طفيفة، لكن عندما عاد الطبيب أخبرني أنها إصابة صعبة، ووجد إصابة أخرى بظهري، فأمر بنقلي لإجراء صورة أشعة في المشفى المعمداني، ثم عدت لاستكمال العلاج بالشفاء، كنت أسأل نفسي: 'لماذا يقتل أنس ومحمد وبقيت الزملاء؟' والأخير كان يحدثني عن أحلامه قبل دقائق'.