اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٨ تموز ٢٠٢٥
من بركة السلطان الأثرية، إلى أسوار البلدة القديمة، ثم إلى عيون ملايين العرب والمسلمين الذين يرقبون ما يحدث هناك، في قلب القدس المحتلة، تتوالى فصول مسرحية استعمارية جديدة، بطلها هذه المرة 'مهرجان القدس السينمائي' الذي يُخطَّط لإقامته خلال أيام.
في الظاهر، قد يبدو الأمر احتفالًا عابرًا أو تظاهرة فنية، لكن الحقيقة التي يُحذّر منها الباحثون أن خلف شاشات العرض تختبئ أخطر أدوات التهويد: إعادة تشكيل وعي الناس، وإعادة صياغة هوية المدينة برواية إسرائيلية خالصة.
يرى الباحث في شؤون القدس، د. عبد الله معروف، أن هذا المهرجان ليس نشاطًا ثقافيًا عاديًا. يقول بوضوح: «هذا جزءٌ من مشروع متكامل يسعى لترسيخ السيطرة الاحتلالية الكاملة على المسجد الأقصى وفضائه ومحيطه. إنهم يستخدمون الأدوات الناعمة: السينما، الفن، السياحة، لكنها في جوهرها وسائل هدمٍ للذاكرة والوعي».
ويضيف معروف لـ 'فلسطين أون لاين'، وهو يكرّس جهده لرصد سياسات الاحتلال في القدس: «ما يجري هو محاولة قذرة لفصل الأقصى عن قدسيته، لفصل المدينة عن هويتها الحقيقية. الاحتلال يدرك أن المعركة اليوم معركة رواية — من الذي يكتب تاريخ القدس؟ من الذي يقول للناس ماذا كانت عليه وما الذي ستكونه؟».
ومن أخطر ما أشار إليه معروف أن «هذه الأنشطة لا تقتصر على الترويج للسردية الصهيونية، بل تندرج ضمن مشروع التقسيم الزماني والمكاني للأقصى. عندما تُقام فعاليات ضخمة قرب الأقصى بمشاركة عشرات الآلاف من المستوطنين، فهذا يهدف إلى فرض السيادة الإسرائيلية كواقع ملموس، وتقليص المساحات العربية من حوله».
وبقدر ما يحلّل معروف أبعاد الخطر، فإنه يشير أيضًا إلى بوابة المواجهة: «الرباط في الأقصى صار واجبًا دينيًا ووطنيًا وأخلاقيًا، لأنه دفاعٌ عن هوية مدينةٍ كاملة، لا عن مسجدٍ وحسب. إن وجود المقدسيين في ساحات الأقصى وحول أسواره هو ما يحميه من أن يتحوّل إلى مسرحٍ صامت لمشاريع التهويد».
أما الباحث المقدسي زياد ابحيص، فيذهب أبعد من ذلك في توصيف خطورة هذا المهرجان، ويربطه بخارطة التهويد الأوسع التي تسعى إلى تحويل القدس إلى 'متحف استيطاني' مغلق الهوية.
يقول ابحيص لـ'فلسطين أون لاين': 'بركة السلطان ليست مجرد ساحة عامة، بل رمزٌ تاريخي فلسطيني قديم. حين تختار بلدية الاحتلال تحويلها إلى ساحة مهرجان سينمائي، فهي في الواقع تنتزعها من عمقها العربي والإسلامي، وتقدّمها للسياح والمستوطنين كجزء من سرديةٍ جديدة: مدينة بلا أهل، بلا أذان ولا أجراس كنائس، بلا تجاعيد التاريخ التي تحكي قصة القدس الحقيقية'.
ويستعرض ابحيص كيف تستخدم إسرائيل أدوات 'الثقافة' كأداة استعمارية: 'إنهم يملؤون الأزقة بالكاميرات، ويجلبون آلاف السياح الأجانب، ليمرّوا على مشاهد مشوّهة، بينما يغيب أصحاب الأرض الحقيقيون خلف جدران الحصار والاستيطان. هدفهم واضح: غسل أدمغة الأجانب قبل عيون أبناء المدينة أنفسهم'.
وبنبرة تحذيرية، يضيف: 'هذه المهرجانات تُظهر القدس كمجمّع ترفيهي وسياحي، لا كمدينة محتلة لها أهل يقاومون دفاعًا عن حجارتها. إنهم يسوّقون البلدة القديمة وكأنها فضاء مفتوح بلا تاريخ عربي، ويربطونها بمشاريع فصلٍ استيطانية تحاصر الفلسطينيين وتطردهم منها'.
وبين ما يكتبه معروف وابحيص تكتمل صورة مرعبة: الاحتلال لم يكتفِ بسرقة الأرض وتهجير السكان وتغيير أسماء الشوارع، بل راح يطارد الذاكرة عبر شاشات السينما، يزرع فكرة كاذبة تقول إن هذه المدينة 'عاصمة ثقافية لإسرائيل'، وأن لا وجود فيها لمآذن أو كنائس أو شوارع تنطق بالعربية.
هنا تكمن خطورة 'مهرجان القدس السينمائي' — إنه يُطبّع الاحتلال في عيون المشاركين، و'يشرعن' وجوده في وعي الأجيال الشابة التي قد ترى المشهد الاحتفالي الملوّن ولا تعرف ما يخفيه من قمعٍ وتهجيرٍ واستيطان.
بين أسوار القدس، يعرف المقدسيون هذه اللعبة جيدًا. هم الذين يقفون عند أبواب الأقصى كل فجر، ويعلّقون زينة رمضان كل عام، ويحفرون أسماءهم فوق حجارةٍ تحاول إسرائيل محوها. ولذلك يشدد معروف وابحيص على أن «المعركة مع الاحتلال ليست فقط مع المستوطنين والمجندين، بل مع الزيف الذي يُروَّج عبر الأفلام والمهرجانات».
إن دعوة معروف للجماهير واضحة: «حشدوا أنفسكم، حافظوا على حضوركم في ساحات الأقصى. كل خطوة هناك هي إفشالٌ لمخططات الاحتلال». في حين يرى ابحيص أن المعركة أيضًا معركة إعلام: «لا بد أن ننقل الصورة الحقيقية للعالم، أن نفضح هذا الزيف الثقافي، وأن نؤكد أن القدس ستبقى مدينة عربية إسلامية رغم كل ما تحاول إسرائيل تغليفه بالفن والثقافة».
هكذا يظهر 'مهرجان القدس السينمائي' اليوم: مشهدٌ احتفاليٌ براقٌ، يخفي وراءه أكبر مشروع لطمس الذاكرة وتهويد المكان والإنسان. وبينما تُضاء شاشات العرض على جدران بركة السلطان، يصرّ الباحثون والمقدسيون على كتابة القصة الحقيقية: قصة مدينةٍ لا تُباع ولا تُشترى، مدينةٍ يسكنها الرباط أكثر من أي فيلمٍ عابر.
والسؤال الذي يعلّقه معروف وابحيص في عنق كلّ حرّ: من سيكتب الرواية الأخيرة — شاشة الاحتلال أم ضمير الشعوب الحي؟