اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة شمس نيوز
نشر بتاريخ: ١٠ حزيران ٢٠٢٥
مع اتساع نطاق الكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة بفعل الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023، باتت قضية إدخال وتوزيع المساعدات واحدة من أعقد القضايا، ليس فقط من ناحية لوجستية، بل أيضاً من حيث البعد الأخلاقي والسياسي، فبينما تتكدس الشاحنات على المعابر منذ شهور طويلة وهذا إن افترضنا جدلاً أن ما تحمله هذه الشاحنات من مساعدات غذائية ما تزال صالحة للاستخدام ولم تعد تالفة، ومع توقف حركة الطائرات العسكرية الاستعراضية لإلقاء المساعدات لصالح الجوعى من أهالي القطاع والتي غالباً ما كانت نتيجتها وخيمة عندما سقطت في عديد المرات لتحطم الرؤوس وتردي الجائعين الساعين خلفها قتلى، ومع كثرة الطروحات الإسرائيلية والأفكار لضمان توزيع المساعدات بدون وصولها إلى أيدي عناصر المقاومة كما يدعون؛ حضرت مبادرة فلسطينية جدية كان يمكن لها أن تغيّر قواعد العمل الإنساني بالكامل في حال نجاحها وتطبيقها على أرض الواقع.
المبادرة التي كان صاحبها رجل الأعمال الفلسطيني بشار المصري والتي أطلقها خلال لقائه مع أصحاب المصانع المدمرة في مدينة غزة الصناعية في الأول من تشرين ثاني الماضي، أي حتى قبل التوصل لاتفاق إطلاق النار؛ كانت تقوم على أساس تحويل المدينة الصناعية الواقعة شرق مدينة غزة والقريبة من معبر كارني (المنطار) إلى مركز لوجستي استراتيجي لتخزين وفرز وتوزيع المساعدات الإنسانية بإشراف الأمم المتحدة وبسواعد فلسطينية.
لم تكن الفكرة من وراء المشروع نظريات أو دعاية بحسب القائمين عليه، بل جاءت بدعم فني أولي من مؤسسات أممية حيث لاقت استحساناً من طرفهم، وكانت تستند في جوهرها إلى منطق بسيط وفعّال، فبدلاً من توزيع المساعدات عبر شركات أجنبية وطرق عسكرية احتلالية، كان الطرح بأن تتم إدارة هذه المساعدات محلياً وفقاً للمعايير الدولية، وبما يحفظ كرامة الناس ويمنح الفلسطينيين دوراً مركزياً في إدارة أزمتهم.
وبالتوازي مع الجوانب الإنسانية، كان المشروع يهدف إلى خلق فرص عمل لمئات العمال الفلسطينيين في ظل الانهيار الكامل لسوق العمل في القطاع، حيث كانت الخطة تهدف إلى إيجاد نوع من التوازن بين جهود الإغاثة والتنمية، كما أن الفكرة الرائدة التي أطلقها عراب القطاع الخاص الفلسطيني والملاحق قضائياً هو وشركاته في الولايات المتحدة الأمريكية بتهم دعم حماس حسب ما ادعت عليه عائلات أمريكية وإسرائيلية؛ تهدف إلى كسر فكرة أن سكان قطاع غزة محكوم عليهم بتلقي المساعدات من السماء مع شحها أو من خلال شاحنات تمر بإشراف وحماية عسكرية وتنهب في معظمها، ولكن أكثر ما كان يشعر الفلسطيني بالإحباط أنه ورغم منطقية مقترح المدينة الصناعية، ورغم جاهزية البنية التحتية فيها إلا أنه لم يُكتب لهذا الطرح أن يرى النور، والسبب في ذلك إن علمنا أو جهلنا إسرائيلي بامتياز، فلا أحد آخر يريد إهانة كرامة الفلسطيني سوى الحكومة في تل أبيب والجهات اليمينية التي تحركها كما أرادات.
وعلى النقيض من مقترح المصري، جرى تفعيل نموذج مغاير تماماً ومهين تماماً بحق الفلسطيني، وهو المتمثل في إقامة نقاط توزيع تديرها شركات أمنية أمريكية وتحميها أعين وقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، فتوزع الطعام للفلسطيني بعد فحصه أمنياً وبعد أن تحتقر كرامته بشتى السبل، وهذا طبعاً إن قُدر له الوصول والحصول على المساعدة فجميعنا يرى ويشاهد ويسمع ما يحل بمئات الفلسطينيين بالقرب من مواصي رفح وجنوب محور نتساريم عندما تطلق قوات الاحتلال النيران عليهم وهم ينتظرون أن يتم السماح لهم بالحصول على المساعدات ليرتقي العشرات ويصاب المئات بشكل يومي بدون أن نجد من يحرك ساكناً.
والحقيقة التي يغفلها الكثيرون هنا أن النموذج التي قدمته إسرائيل وباركته أمريكا لم ولن يولد الثقة بين الناس بل على العكس من ذلك عزز شعورهم بالتهميش، وزاد من هشاشة العلاقة بين السكان والجهات المانحة، فما يُطرح اليوم من خلال الأبواق الأمريكية والإسرائيلية كعملية إنسانية، يتحول فعلياً ليكون مشروع سيطرة لوجستية وتجريب أمني، حيث تُخضع المساعدات لشروط أمنية معقدة، وتُدار بعيدًا عن أي إشراف فلسطيني حقيقي، وعداك طبعاً عن اختيار مناطق التوزيع بعناية وكأن المراد بذلك تجميع الناس في بقع جغرافية معينة ليتسنى للاحتلال في وقت لاحق التصرف معهم كيفما شاء وفقاً للظروف المحيطة.
ما خسره القطاع جرّاء تعطيل مشروع مدينة غزة الصناعية لا يقتصر على الإغاثة، بل يطال أيضاً فكرة الكرامة والسيادة، ولقد أضاع المجتمع الدولي فرصة لأن يبرهن أن الفلسطينيين لديهم القدرة على إدارة شؤونهم حتى في أحلك الظروف، وأن الشراكة ليست مستحيلة، وقد كان من الممكن لهذا المركز أن يكون نموذجاً لعمل إنساني محترم وفعال وخاضع للرقابة الدولية.
ورغم أن مشروع تحويل مدينة غزة الصناعية إلى مركز لوجستي إنساني لم يُمنح فرصة الانطلاق ولم يأخذ الزخم الحقيقي كمشروع ريادي ويخدم الكل الفلسطيني، إلا أنه يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية عديدة كحضور الإرادة الدولية الحقيقية لدعم مشاريع يقودها الفلسطينيون بأنفسهم، والحديث حول المساعدات الإنسانية كأداة تخضع لحسابات القوة والسيطرة ووفق المزاج السياسي بعيداً عن حاجة الإنسان، وما لم تُكسر هذه المعادلة، ستظل أي محاولة لإغاثة غزة حبيسة المنطق نفسه، تُكرَّر في كل حرب وتخضع للأقوياء فقط.