اخبار فلسطين
موقع كل يوم -شبكة قدس الإخبارية
نشر بتاريخ: ٢٨ نيسان ٢٠٢٥
غزة -خاص قدس الإخبارية: كلما احتدم النقاش مجددًا حول مستقبل الحرب في قطاع غزة، وطبيعة العمليات العسكرية، وفشل الاحتلال المستمر في تحقيق أهدافه المُعلَنة، تعود قضية السيطرة على المساعدات وتوزيعها إلى واجهة المشهد، بوصفها أحد أبرز مواضع الخلاف بين المستويَين السياسي والعسكري في دولة الاحتلال.
ويُطرَح ملف المساعدات كحلٍّ 'سحريٍّ' لدى بعض وزراء حكومة الاحتلال، الذين يرونه أداةً للقضاء على حكم 'حماس' في غزة، وتجاوُز بنيتها الحكومية، وتجفيف مواردها.
ويبرز ضمن هؤلاء بشكل خاص وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يطالِب بأن يتولى جيش الاحتلال مباشرةً مهمة السيطرة على المساعدات وتوزيعها، ما يرفضه الجيش لأسباب متعددة.
وعلى الرغم من تبايُن المواقف، يتفق مختلف الأطراف داخل كيان الاحتلال على الأهمية الحيوية لهذا الملف، الذي تنطوي خلفه مصالح متضاربة وتخوفات عميقة.
المساعدات.. سلاح في معركة السيطرة على غزة
يرتبط طرح قضية السيطرة على المساعدات بالفشل الذريع الذي مُني به الاحتلال في محاولاته للإطاحة بالبنية الحكومية القائمة في قطاع غزة. فعلى امتداد الحرب، استهدف الاحتلال كل مظاهر الحياة المدنية والأمنية استهدافًا مباشرًا، وشنَّ حملة اغتيالات واسعة طالت الغالبيةَ العظمى من وكلاء الوزارات ومديريها، وصولًا إلى اغتيال رئيس لجنة متابعة العمل الحكومي، الشهيد عصام الدعاليس.
لم تقتصر الاستهدافات على مؤسسات الحكومة والوزارات، بل امتدت لتطال قطاع الحكم المحلي والبلديات، ولجان الطوارئ، التي تضطلع بمهمة الحفاظ على الحد الأدنى من مقومات الحياة. فقد اغتال الاحتلال أكثر من أربعة رؤساء بلديات وعشرات العاملين في المجالس المحلية، كما دمَّر المعدات الحيوية تدميرًا ممنهجًا، والتي كان آخرها استهداف الجرافات والآليات، بما فيها معدات مصرية دخلت القطاع في خلال فترات التهدئة للمساهمة في إزالة الركام وفتح الطرقات.
على الرغم من هذه الحرب الشاملة، ظلَّ القطاع الحكومي في غزة، المنهَك أساسًا منذ ما قبل الحرب بفعل أزمات مالية خانقة، صامدًا ويواصل أداءه ولو بحدود دنيا. ومع تصاعُد العجز والأعباء، أعاد الاحتلال توجيه الاتهامات في اتجاه ملف المساعدات، بوصفه 'مفتاح' بقاء حكم 'حماس'.
يسود هذا الادعاء اليوم في أوساط سياسية وعسكرية لدى الاحتلال، ويتمحور حول أن سيطرة 'حماس' على المساعدات تُمكِّنها من تثبيت حضورها بين السكان، سواءٌ عبر إدارتها لعمليات التوزيع أو عبر استغلال جزء من هذه المساعدات كمورد مالي يعزِّز صمودها.
غير أن الواقع الميداني ينفي هذه المزاعم، فالمساعدات التي تصل إلى غزة تُدار عبر مئات المؤسسات الدولية والعربية والمحلية، وتتولى بنفسها عملية التوزيع المباشر للفئات المستهدَفة، دون تسجيل أية حالات استيلاء من قبل 'حماس' أو أي فصيل مقاوم آخر عليها.
وباستثناء تعاون محدود بين وزارة التنمية الاجتماعية وبعض المؤسسات الإغاثية، عبر توفير قواعد بيانات للفئات الأشد حاجة، لم تُسجَّل أية مظاهر لسيطرة حكومية على المساعدات.
ومع ذلك، يواصل الاحتلال توظيف هذا الادعاء مبرِّرًا لفشله في تفكيك العمل الحكومي من جهة، وأداةً للمزايَدة والمناكَفة بين المستويَين السياسي والعسكري داخل كيانه من جهة أخرى.
خطط الاحتلال: تعددت الأساليب وفشلت الأهداف
على امتداد شهور الحرب، صاغ الاحتلال خططًا متعددة لتولِّي إدارة الشؤون المدنية في قطاع غزة وإعادة هندسة الواقع السكاني بما يخدم أجندته السياسية. منذ الشهور الأولى، سعى إلى إنشاء نظام محلي متعاون معه، يكُون بوابةً لاختراق منظومة الحكم القائم وتجاوز المشهد الفصائلي برمَّته، في إطار تصوُّر 'اليوم التالي' الذي رسم ملامحَه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو.
في البداية، راهن الاحتلال على استثمار البنية العشائرية، محاولًا تحويل بعض العشائر إلى أداة رئيسية لاختراق المجتمع الغزي. لجأ إلى فتح قنوات تواصل، تارةً مباشرة وتارةً غير مباشرة، وعرض إغراءات مقابل تولِّي مسؤولية توزيع المساعدات، بالتوازي مع فرض سياسة تجويع مشدَّدة خاصةً في شمالي القطاع. غير أن هذه المحاولة اصطدمت بجدار الرفض الشعبي، إذ تمسَّك الغزيون بموقف قاطع يرفض أيَّ تعاون مع الاحتلال.
لاحقًا، انتقل الاحتلال إلى رهان جديد، تمثَّل بمحاولة إحلال المؤسسات الدولية مكان القطاع الحكومي، لتولِّي تقديم الخدمات الأساسية مباشرة إلى السكان. وكان الهدف كسر الحاجز النفسي وإيجاد بدائل للحكم القائم، لكن هذه المحاولة فشلت أيضًا في استقطاب السكان أو خلق قنوات تؤسِّس لواقع جديد.
تصاعدت المخططات لاحقًا مع طرح خطة وزير الحرب المُقال يؤاف غالانت، المعروفة باسم خطة 'الفقاعات الإنسانية'، والتي سعت إلى عزل مربعات سكانية ذات طابع عشائري، بعد 'تطهيرها' من قوى المقاومة، مع إيكال مهمة إيصال المساعدات إلى شركة أمنية أمريكية خاصة، والتحكم في حركة الدخول والخروج منها، إلا أنها لم تَرَ النور أصلًا.
وعلى الرغم من تعدد الأساليب، من استثمار العشائر إلى الاعتماد على المؤسسات الدولية إلى فرض الفقاعات الأمنية، ظل القاسم المشترك لها الابتزاز الإنساني واستخدام المساعدات وسيلةً للضغط وكسر إرادة السكان. وفي نهاية المطاف، انتهت جميع هذه المخططات إلى مصير واحد: الفشل.
بين الدفعِ إلى الحكم العسكري وهواجسِ الجيش
عادت أزمة مسؤولية توزيع المساعدات في غزة إلى واجهة الخلافات داخل الاحتلال مع عودة زخم حرب الإبادة، إلا أنها حَلَّت هذه المرة في ظل تغييرات واسعة طالت المستويَين السياسي والعسكري.
فقد أطاح بنيامين نتنياهو بوزير الحرب السابق وعيَّن مكانه وزيرًا أكثر تماهيًا مع توجهات الائتلاف الحكومي، قبل أن يشرف لاحقًا على تغيير جذري في قيادة الجيش، باستبدال رئيس الأركان هرتسي هاليفي بالجنرال إيال زامير، سكرتيره العسكري السابق، وصاحب النهج الهجومي.
سارع زامير، منذ توليه المنصب، إلى تنفيذ تغييرات واسعة في هيئة الأركان، شملت استبعاد قادة وُصموا بالفشل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، واستبدالهم بجنرالات جدد، ما أنعش آمال قوى الصهيونية الدينية في تجاوز الخلافات التي سادت طوال الحرب، خصوصًا حول مسألة تولِّي الجيش مهام مدنية في غزة.
لكن سرعان ما انهار 'شهر العسل'، وعادت الخلافات إلى الواجهة في خلال آخر اجتماعات الكابينت، عندما تفجر خلاف علني بين وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ورئيس الأركان زامير. ففي الاجتماع، أعلن وزير الحرب الجديد يسرائيل كاتس ضرورة استئناف إدخال المساعدات إلى غزة مع 'ضمان عدم وصولها إلى 'حماس'' والحاجة إلى آلية تضمن ذلك.
غير أن زامير رفض تولِّي الجيش مسؤولية التوزيع رفضًا حاسمًا، ما دفع سموتريتش إلى مهاجمته قائلًا: 'الجيش لا يختار مهامه... إن لم تكونوا قادرين فسنجد من هو قادر'، متوعدًا بتوسيع الضغط السياسي على الجيش ومذكِّرًا رئيسَ الأركان بمصير سلفِه هاليفي.
ولتفكيك الموقف، ينطلق إصرار قادة الصهيونية الدينية، وعلى رأسهم سموتريتش، من هدف استراتيجي يتمثل بفرض حكم عسكري إسرائيلي على قطاع غزة عبر ملف المساعدات. فهم يدركون أن تولِّي الجيش مسؤولية التوزيع سيفرض إنشاء مراكز عسكرية ثابتة، وسيفرض تحركات أوسع داخل غزة، ما يمهِّد فعليًّا لفرض واقع الاحتلال المباشر من جديد.
ويُشكِّل الحكم العسكري بالنسبة إليهم فرصة ذهبية لتعزيز مسارين رئيسيين:
في المقابل، يدرك قادة الجيش الثمن الباهظ لهذه المغامرة. فقد حذَّر الصحفي الإسرائيلي نير دفوري عبر القناة N12 الإسرائيلية من أن إقامة حكم عسكري يعني تورُّط آلاف الجنود في مهام مدنية لسنوات، وتحمُّل خسائر بشرية واقتصادية فادحة، ما يرفضه الجيش رفضًا قاطعًا.
وسبق أن حذَّر وزير الحرب المُقال يؤاف غالانت من أن إدارة عسكرية في غزة ستستنزف قدرات 'إسرائيل' الأمنية لعقود، وستكون 'مغامرة دموية' تُضعِف الجبهاتِ الأخرى، وهو موقف دعمه عضوَا مجلس الحرب المستقيلان، بيني غانتس وغادي أيزنكوت.
حتى من موقعه خارج الحكومة، واصل غالانت التحذير من مغبة الخطوة، عادًّا أن 'تولِّي إسرائيل توزيع المساعدات أو تأمينها عبر شركات خاصة مجرد تعبير ملطَّف للحكم العسكري'، مؤكدًا أن 'ذلك سيكون عملًا سياسيًّا خطيرًا وغير مسؤول'.
في المحصلة، يُستخدَم عنوان السيطرة على المساعدات اليوم غطاءً سياسيًّا للتعمية على الفشل المتواصل في تحقيق أهداف الحرب، وفشل اختراق البنية المدنية لغزة. لكنه يعكس في جوهره صراعًا أعمق، بين جناح إسرائيلي يدفع في اتجاه إعادة احتلال غزة وفرض حكم عسكري طويل الأمد، وجيش يحاول الهروب من هذا الكابوس، مدركًا أن دخول غزة يعني استنزافه، وتحويل جنوده من مقاتلين إلى أكياس سوداء تُعاد محمولة إلى بيوتهم، وهي معادلة رسَّختها المقاومة على امتداد الحرب وزادت وتيرتَها في الأيام الأخيرة باستهداف جنود الاحتلال حتى في المنطقة العازلة.