اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
الكاتب: أ.صخر سالم المحاريق
الكاتب: أ. صخر سالم المحاريق
أكاديمي ومُختص في تطوير الموارد البشرية، قضايا التنمية المُستدامة.
في ظل التسارع المعرفي والتقني الذي يشهده العالم، تُطرح أسئلة جوهرية حول الدور الحقيقي الذي تؤديه الجامعات في المجتمعات الحديثة. هل لا تزال الجامعات مجرد معابر أكاديمية تمنح الشهادات وتضخ الموظفين إلى سوق العمل؟ أم ينبغي لها أن تكون مصانع حقيقية للعقول الريادية والقادة الفكريين؟ في هذا السياق، يبرز مفهوم 'جامعات النُخب' ليس بوصفها حكرًا على الطبقات العليا، بل باعتبارها نموذجًا فكريًا يعيد تعريف التعليم الجامعي على أسس أكثر عمقًا وتأثيرًا.
دعوة لأرستقراطية التفكير لا أرستقراطية الامتيازات.
عندما نتحدث عن 'أرستقراطية التفكير'، فنحن لا نشير إلى امتياز طبقي قائم على الثروة أو النفوذ، بل إلى امتياز عقلي يرتكز على القدرة على التفكير النقدي، واتخاذ القرار، وقيادة التغيير. هذا النوع من الأرستقراطية لا يُشترى، بل يُبنى عبر منظومات تعليمية تؤمن أن الجامعة ليست مجرد ورشة لإنتاج الموظفين، بل مختبر لإعداد القادة والمفكرين والمبدعين.
في المقابل، لا تزال كثير من الجامعات العربية والعالمية محكومة بمنطق الكمّ لا النوع، حيث يصبح الهدف الأول هو زيادة عدد الخريجين وليس تعزيز نوعية الخريج. تُقاس كفاءة الجامعة بعدد طلابها وتخصصاتها وشهاداتها، لا بمدى إسهامها في إنتاج معرفة جديدة أو تخريج قيادات مجتمعية وفكرية.
فرضُ مُقارنةٍ بين جامعتين: مصنعةٌ للقادة أم مطبعةٌ للشهادات؟
دعونا نقارن بين جامعتين افتراضيتين:
الجامعة 'أ' تركز على المهارات التقنية، التدريب الوظيفي، الانضباط الأكاديمي، وتقييم الأداء بناءً على الحفظ والامتحانات. مخرجاتها: موظفون أكفاء، لكنهم غالبًا يفتقرون إلى القدرة على المبادرة أو النقد أو الريادة.
الجامعة 'ب' تضع الطالب في قلب التجربة التعليمية، تحفّزه على طرح الأسئلة بدلًا من تلقّي الأجوبة، وتُدخل في مناهجها مساقات في الفلسفة، التفكير النقدي، المسؤولية المجتمعية، القيادة، وريادة الأعمال. خريجوها: قد لا يكونون الأكثر التزامًا بالشكليات، لكنهم في الغالب من يُحدثون التغيير في مجتمعاتهم.
الفرق بين الجامعتين يكمن في الرسالة والرؤية. الأولى تُخرّج موظفين، الثانية تُخرّج قادة.
الجامعة كمنصة لصناعة القرار لا تنفيذه.
القادة لا يُخلقون في لحظة، بل يُصقلون عبر مسار طويل من التجربة، والسؤال، والتفكير، والتحدي. والجامعة – إن أرادت أن تؤدي هذا الدور – يجب أن تتحول إلى ساحة للفكر الحر والنقاش المفتوح والتجريب الجريء، لا إلى مؤسسة تكرّس الطاعة والانصياع للنماذج الجاهزة.
لا يكفي أن تُدرّس الجامعات 'إدارة الأعمال'، بل يجب أن تنتج رجال الأعمال. لا يكفي أن تُدرّس 'العلوم السياسية'، بل يجب أن تُنضج فيها صنّاع السياسات. لا يكفي أن تُخرّج 'معلمين'، بل ينبغي أن تزرع فيهم روح التنوير لا التلقين.
أزمة الفكر في الجامعات العربية اليوم ...
تعيش الجامعات العربية اليوم أزمة فكر حقيقية، إذ تحوّلت في كثير من الحالات إلى مصانع شهادات بدل أن تكون منصات لإنتاج القادة وصياغة الوعي. فبدل التركيز على تنمية العقل النقدي وصناعة المبادرة، يتم حصر التعليم في التلقين والحفظ وإعداد الموظف المثالي، لا المفكر أو الريادي.
رغم وجود نماذج جامعية عربية بدأت تشق طريقًا مختلفًا، إلا أنها تبقى استثناءً لا يُغيّر القاعدة. لا يزال الكمّ يطغى على النوع، والتقليد يسبق التجديد، في مؤسسات تحسب نجاحها بعدد الخريجين لا بنوعيتهم.
وللخروج من هذه الأزمة، يجب أن تُعيد الجامعات العربية تعريف رسالتها، فدورها ليس تخريج موظفين، بل إعداد نخبة فكرية قادرة على قيادة التغيير. عندها فقط، نستطيع الحديث عن جامعات تُصنّف ضمن أرستقراطية التفكير لا بيروقراطية التلقين.
وفي الختام عزيزي القارئ الكريم؛ إن مستقبل المُجتمعات لا يُبنى على أكتاف المتعلمين فحسب، بل على عقول القادة والمفكرين وصنّاع الاتجاهات. لذلك، فإن الجامعات التي تكتفي بمنح الشهادات تُفرّغ رسالتها من معناها الحقيقي. أما 'جامعات النخبة' التي تصر على أرستقراطية التفكير، فهي التي تعيد للجامعة دورها التاريخي كمحرّك للنهضة وقاطرة للتغيير.
المطلوب اليوم ليس فقط تعليم الأفراد كيف يعملون، بل تعليمهم لماذا يعملون، ولمصلحة من، وإلى أين يمضون. هذه ليست وظيفة تقليدية، بل رسالة نُخبوية تستحق أن تتبناها الجامعات التي تطمح لأن تكون أكثر من مُجردِ مؤسسات تعليمية... بل مصانع لقادة الغد.