اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٩ أيار ٢٠٢٥
في قطاع غارق في الدم والحصار، أصبحت الطفولة جريمة يُعاقَب عليها الأطفال بالموت. تتنازع أرواح صغار غزة ثلاثة أشباح قاتلة: الجوع، القصف، والخوف. لا يختار الأطفال هنا طريقة موتهم، بل تختارهم طرق الموت واحدة تلو الأخرى. بعضهم يموت من سوء التغذية، وآخرون يموتون تحت الأنقاض، بينما يعيش الباقون في انتظار رعب قادم، أو وجبة غائبة، أو صوت انفجار جديد.
صباح دامٍ آخر سجّلته الذاكرة المنهكة، حين أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أن تسعة أطفال من عائلة النجار استشهدوا في قصف إسرائيلي دمّر منزلهم في خان يونس جنوب القطاع. وحده الطفل العاشر نجا بإصابات بالغة، بعد أن قضى ساعات بين الركام، يصارع الموت والخوف في آن.
'أن تموت وأنت نائم، في حضن أمك، لا لأنك جندي أو مقاتل، بل لأنك طفل فلسطيني... هذا ما حدث لأطفال عائلة النجار'، علّق أحد المسعفين الذين انتشلوا الأجساد الصغيرة.
إدوارد بيغبدير، المدير الإقليمي لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وصف هذه المجزرة بـ'الرعب الذي لا يمكن تصوّره'، مشيرًا إلى أن ما يجري في غزة يفوق حدود الإنسانية. وأضاف في بيان رسمي: 'استهداف الأطفال بهذا الشكل هو جريمة محتملة قد ترقى إلى الإبادة الجماعية.'
ومنذ أكتوبر 2023، سُجّل استشهاد وإصابة أكثر من 50 ألف طفل في قطاع غزة، بحسب إحصاءات المنظمة الأممية، بينما استُشهد 1,309 طفلًا آخرين منذ انهيار الهدنة في مارس، في وقت تحذر فيه المنظمات الإنسانية من الانهيار الكامل للنظام الصحي والإنساني، ما يجعل الموت الصامت جوعًا ومرضًا رفيقًا دائمًا لمن تبقّى.
في مراكز الإيواء، حيث لجأ من نجا من القصف، تُروى فصول أخرى من الألم. داخل مركز ايواء غرب مدينة غزة، يرقد عاصم صلاح (37 عامًا) إلى جوار طفلته التي لم تتجاوز الثالثة من العمر، وقد خسر كل شيء في الشمال. يقول لصحيفة 'فلسطين':
'وزنها ينقص يومًا بعد يوم. تعاني من سوء تغذية حاد، وأنا عاجز تمامًا. لا دواء، لا غذاء، ولا حتى ماء نظيف. أشاهدها تذبل أمامي، وأشعر كأنني أدفنها ببطء.'
بينما في غرفة متفحمة أعاد ترميمها بصعوبة، يعيش عبد الله الريفي (35 عامًا) مع زوجته وأطفاله، بعد أن دُمّر منزله بفعل القصف. يروي:
'ابني، ذو الستة أعوام، صار وجهه شاحبًا، عيناه غائرتان، جسمه هزيل. حتى الطعام الرديء لا نجده. أشعر بالعجز، وأنا أعجز عن تلبية أبسط أمنياته: وجبة بسيطة اعتاد عليها قبل الحرب.'
المأساة تتعمق أكثر في شهادات محمد حسونة (45 عامًا)، الذي خسر منزله ويعيش في مركز إيواء غرب غزة مع زوجته وأطفاله الستة. يقول:
'ابني الصغير، عمره أربع سنوات، مريض دائمًا، مناعته معدومة. لا حليب، لا دواء. الحرب والجوع والخوف اجتمعت عليهم. صاروا يرتجفون لمجرد سماع صوت عالٍ. حتى النوم صار رفاهية.'
الأرقام التي تنقلها 'اليونيسف' مخيفة. أكثر من مليون طفل في غزة محاصرون منذ أكثر من شهرين، دون غذاء كافٍ أو ماء صالح للشرب. الأغذية التكميلية للأطفال نفدت، ولم يتبق من الحليب الصناعي الجاهز سوى ما يكفي لأربعمئة طفل، بينما يوجد أكثر من عشرة آلاف رضيع بحاجة عاجلة له. العائلات تلجأ لخلط الحليب بمياه ملوثة، مما يؤدي إلى إصابات معوية قد تكون قاتلة.
إلى جانب الجوع، تنهار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي. توقّف تشغيل محطة التحلية الرئيسية، ما أدى إلى انخفاض إنتاج المياه بنسبة 85%. نصيب الفرد من مياه الشرب تراجع من 16 لترًا إلى أقل من 6 لترات يوميًا، وقد يصل إلى 4 لترات فقط، ما يرفع من خطر تفشي الأمراض المعدية.
في هذه الفوضى الإنسانية، خرجت 21 منشأة لعلاج سوء التغذية عن الخدمة، كانت تقدّم العلاج لما لا يقل عن 350 طفلًا، تركوا الآن لمصيرهم. 'اليونيسف' تحذر من مجاعة وشيكة، وتصف الوضع بـ'المنهار تمامًا'.
لكن المأساة ليست فقط فيما يحدث، بل في الصمت تجاهه. تقول اليونيسف إن 'الأطفال في غزة لا يحتاجون فقط إلى الغذاء والماء، بل إلى الأمان والعدالة'، مؤكدة أن المجتمع الدولي مطالب بالتحرك الفوري، لا الاكتفاء بإدانات خجولة.
في غزة، لا يعيش الأطفال طفولتهم، بل يحاربون لأجل البقاء. بعضهم يموت تحت الركام، كما أطفال عائلة النجار، وآخرون يُنهكون من الجوع، بينما يتعفن الخوف في أجسادهم كل ليلة.
وفيما تُدوّن المجازر كل يوم، ما تزال العيون الصغيرة ترقب السماء بخوف، تنتظر صاروخًا قد يسلبها ما تبقى، أو لقمة لم تأتِ بعد، أو حضن أم لا يملك لها شيئًا سوى البكاء.