اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٧ حزيران ٢٠٢٥
كان الجنون الصهيوني قد تصاعد إلى حدوده القصوى بعد السابع من أكتوبر، ليعبر عن نفسه بسياسات وإجراءات متوحشة، تكاد قواميس اللغة تضيق بإيجاد وصف يناسب قدر إجرامها ودمويتها وخسّتها وتجردها من أي اعتبار إنساني أو اخلاقي، وهو جنون يمثل تماماً الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني منذ تأسيسه، حتى وإن نجح في بعض المراحل الزمنية بأن يضفي على نفسه أقنعة ومسوح احترام ضوابط القانون الدولي.
ومع أن غزة كانت الساحة التي صبّ فيها كيان الاحتلال كل ما في جعبته من سياسات الإجرام، تدميراً وقتلاً وتجويعاً وإنهاكاً واستهانة فظيعة بحياة البشر، وتعطشاً هائلاً لسفك الدم والتفنن في تعذيب الناس وتصعيب حياتهم، إلا أنه مارس السياسة ذاتها، وإن بنمط مختلف في الساحات الفلسطينية الأخرى وخصوصاً في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، ولم تكن سياسته في هذه الساحات قائمة على محاسبة من يقاومه أو يعاديه فحسب، بل معاقبة وترهيب كل الناس لردعهم من جهة ولتفريغ الأحقاد التي غذتها نزوة انتقامه المجنونة من جهة أخرى، وبات معها كل فلسطيني هدفاً مشروعاً للقتل والتعذيب والانتهاك.
كانت فصول الانتهاك تتكاثر وتتزاحم على الساحة الفلسطينية، فينسي بعضها بعضا، ومع أن الجرح الذي ما زال مفتوحاً في غزة يغشي الأبصار عن كل ما دونه، إلا أن فهم عقلية التوحش الصهيونية ومدى الجنون الذي بلغته يقتضي استحضار كل ما مارسته في الأماكن الأخرى، داخل فلسطين وخارجها، بعد أن منحت قيادة الكيان نفسها تفويضاً مفتوحاً لفعل أي شيء وصولاً لتحقيق هدفها بتغيير وجه الشرق الأوسط، كما صرح نتنياهو أكثر من مرة، وبعد أن مضت حكومته في سياسة فتك غير مسبوقة، ولم تجد ما يردعها أو من يحاسبها أو يدفعها ثمن جرائمها حتى الآن، وهو ما سيعني أن فظائعها ستزداد ضراوة، ما لم تجابه بما يكسر شوكتها ويذيقها من كأس المرارة نفسه الذي جرعته لعموم الفلسطينيين وليس فقط لمن يقاومها أو يناهض مشروعها.
تصريح الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، عقب الضربات الصاروخية الإيرانية في عمق الكيان، عاد ليجدد سياسة العدوان المفرطة التي تصاعدت بعد السابع من أكتوبر، وليعبر قبل كل شيء عن حجم الإفلاس والخيبة اللذين تعيشهما المؤسسة الصهيونية، السياسية والأمنية، فما معنى أن ينشغل بتوعد من يظهرون مشاعر الفرح بصواريخ إيران من الفلسطينيين ويهددهم بدفع ثمن كبير سواء أكانوا داخل السجون أم خارجها؟ بدل أن يركز على معالجة حجم التهتك والهشاشة داخل المجتمع الصهيوني، وثمن التورط الجديد بعد استجلاب هجمات إيران على كيانه والفشل في صدها، ثم ما معنى أن تنشر مصلحة السجون الإسرائيلية مقطعاً يظهر فيه قمع السجانين لثلاثة أسرى فلسطينيين بحجة إبدائهم الفرح بصواريخ إيران؟ رغم كون هؤلاء الأسرى من المدنيين وليس الأمنيين، أي أنهم لم يعتقلوا على خلفية عمل مقاوم للاحتلال.
ثمة تجليات مشابهة لطاقة الحقد هذه، التي وجد الاحتلال أن الحرب فرصة لتنفيسها عبر تصريحات وأفعال كل أركانه من رأس الهرم السياسي وحتى أصغر جندي في جيشه، فكم من عملية اعتقال حدثت على خلفيات بسيطة وغريبة مثل كتابة نكتة على مواقع التواصل، أو آية قرآنية تتضمن معنى جهاديا، أو دعاء لغزة ومجاهديها، وغير ذلك مما صنفته مخابرات ومحاكم الاحتلال بأنه تمجيد للإرهاب وتحريض عليه، وكم من شاب تم التنكيل به عبر الحواجز لوجود صورة على جواله للمجازر في غزة أو لمقاتليها، حتى لو كانت صورة منشورة على موقع إخباري، وكم من منزل تم تدميره وتخريب محتوياته لوجود صورة شهيد فيه أو راية أو شعار للمقاومة، وها هي السياسة ذاتها تتجدد اليوم بضراوة أكبر، بل إن جنود الاحتلال في شوارع الضفة الغربية لا يتوانون عن إطلاق الرصاص أو قنابل الغاز على المنازل التي يخرج أهلها لمشاهدة الصواريخ في السماء وهي تعبر نحو الكيان.
هذه المحاسبة المسعورة على المشاعر، وتجريم الإحساس، تختزل كل ما يمكن قوله عن مستوى جنون الإجرام الذي بلغه الكيان، وعن مدى الغطرسة والتعطش لقهر الناس وسحق وعيهم، وهي في جانب آخر منها تكشف حجم الإفلاس الذي بلغه الاحتلال بكل مستوياته، والتهافت في رد الاعتبار لذاته، وفي تأكيد سياسات ردعه وترهيبه الفاشلة، بعد أن ظن أنه قد نجح فيها، وتمكن من تطويع إرادة الجمهور الفلسطيني وإرعاب العربي والمسلم، ثم جاء التطور الأخير ليذيب أوهامه ويعيده إلى جوهر الحقيقة الاولى حول كنه مشروعه ووضاعة أدواته وفشل سياساته في الإخضاع وكي الوعي. ويكفي أن نشاهد اليوم أطفال غزة الذين تراكمت في ذاكرتهم كل أهوال الحرب، وهم يتابعون السماء مبتهجين حين تجللها رشقة جديدة، لنستلهم من رد فعلهم المدهش اليقين بسقوط كل أدوات الغطرسة الصهيونية، وتهاويها وحتمية انهيارها.