اخبار لبنان
موقع كل يوم -الكتائب
نشر بتاريخ: ١٣ أيار ٢٠٢٥
مَن يقرأ المشهدَ الانتخابيَّ في بعلبك بمعزلٍ عن سياقه الوطنيّ يخسر نصفَ القصّة. صحيحٌ أنّ الانتخابات البلديّة تمرّ عادةً بهدوءٍ نسبيّ قياسًا بالبرلمانيّة، لكنّ ما يدور في عاصمة البقاع الشماليّ هذه المرّة يتجاوز حدود 'الخدمات اليوميّة' إلى سؤالٍ مصيريّ عن مستقبل المدينة ومكانتها في معادلة السّلطة اللّبنانيّة. فبعلبك، التي أُديرت بشبكة خدماتٍ يغذّيها 'الثنائيّ' (حزب الله وحركة أمل)، مستندةً إلى منظومة ولاءاتٍ اجتماعيّة-اقتصاديّة تربط العائلاتِ بالبيت الحزبيّ أكثر ممّا تربطها بالمؤسّسات الرسميّة، تشهد اليوم ترهّلًا ملموسًا في الاستقطاب الطائفيّ الكلاسيكيّ: شيعةٌ ناقمون - جهارًا أو خفيةً - من انعدام الأفق والمغامرات الانتحاريّة الّتي تورطوا فيها على مدار السّنوات الماضيّة، سنّةٌ مُجزَّؤون بين عزوفٍ واعتراض، ومسيحيّون صاروا أقليّةً انتخابيّةً تبحث عن حضورٍ رمزيّ أكثر من بحثها عن مقعد.
وعليه يقف فريقان أساسيّان: لائحة 'تنمية ووفاء' المدعومة من 'حزب الله' و'حركة أمل'، في مواجهة تحالفٍ مستقلٍّ وشبه يساريّ يحمل اسم 'بعلبك مدينتي'. وبينهما عائلاتٌ متجذّرة، قواعد سنّيّة منقسمة، وكتلة ممتعضة تركن إلى المقاطعة أو 'الحياد السلبيّ'.
إرباك سردية الثنائيّ
تشكّل المدينة رصيدًا رمزيًّا لحزب الله؛ فهي 'خزان الدمّ' منذ التسعينيّات. لكنّ هذا الرصيد أنهكته أزماتٌ متناسلة: المياه، والنفايات، والعشوائيّة العمرانيّة الّتي حوّلت بعلبك إلى أحد أكثر أقضية لبنان نزيفًا للهجرة الداخليّة والخارجيّة. وحين ينهض مشروع تغييريّ هنا يتجاوز صداه 'محليّات' البلديّة، بات له حظٌ وافر في إرباك سرديّة الحزب عن 'الإنماء المتوازن' ويطرح أسئلةً حول أولويّاته بين الخدمات والسلاح. فذاكرة المدينة ترسّخت فيها تجربةٌ مضيئة: حين خرجت كتلٌ مدنيّة من أسر العصب الأهليّ، شيّدت عاصمةً للخيال الثقافيّ، وكرّست حقّ الاعتراض، وأطلقت 'نخبةً' ترتسم مثالًا لسكانٍ يهتدون إلى دولةٍ ممكنة. تلك التجربة نفسها يتسلّح بها اليوم فريق 'بعلبك مدينتي' ليقول: لا مكان لحكمٍ بلا مساءلة، ولا لشرعيّةٍ بلا إنماء.
وعليه، تتّجه الأنظار إلى بعلبك حيث يُفترض أن تُجرى الانتخابات البلديّة والاختياريّة في 18 أيّارالجاري. استحقاقٌ قد يبدو محليًّا بحتًا، لكنّه يرقى إلى مرتبة اختبارٍ مصغّرٍ لقواعد اللعبة الوطنيّة برمّتها: بين ثنائيٍّ حزبيٍّ يتسلّح بزخم 'المقاومة' وعُدّة الرعاية الاجتماعيّة من جهة، وتشكّلٍ مدنيٍّ ناشئٍ يطمح إلى كسر الاحتكار وإعادة تعريف السياسة من جهةٍ ثانية.
'تنمية ووفاء': لائحة السلطة
أعلن 'الثنائيّ' لائحته الموحّدة تحت اسم 'تنمية ووفاء' في احتفالٍ متواضعٍ بمنطقة رأس العين. سبق الإعلانَ مشاوراتٌ مكثّفة مع الوجهاء لضمان توازنٍ عائليّ-حزبيّ-طائفيّ دقيق؛ فكلّ اسمٍ يُسقط أو يُضاف قد يُفقد اللائحة مئات الأصوات الدفينة. ضمّت التشكيلة 21 مرشّحًا تعهّدوا 'تطوير البنية التحتيّة، وتحسين إدارة النفايات، ودعم القطاعات الإنتاجيّة'، لكنّ البرنامج بدا تكرارًا مُجمَّلًا لبياناتٍ سابقةٍ لم تُترجَم إنجازاتٍ محسوسة، الأمر الذي دفع خصوم 'الثنائيّ' إلى السؤال: لِمَ نصدّق خطابًا تنمويًّا يُردَّد منذ عقدٍ على الأقلّ فيما تزداد شوارع المدينة ظلامًا والعشوائيّات فوضى؟
مع ذلك، يحتفظ 'تنمية ووفاء' بعوامل قوّةٍ يصعب إنكارها: شبكة الخدمات التي تؤمّنها المؤسّسات الرديفة (من صناديق استشفاء إلى توزيع مازوتٍ شتويّ)، وقدرةٌ تعبويّةٌ على حشد الناخبين في الساعات الحرجة، إضافةً إلى جهوزيّةٍ ماليّةٍ لاستمالة المتردّدين، خصوصًا في الأحياء السنّيّة التي تأتي منها أكبر نسبةٍ من الامتناع.
'بعلبك مدينتي': تجربة مدنيّة
في المقلب الآخر تتكوّن لائحة 'بعلبك مدينتي' من 21 مرشحًا ومرشّحة، بينهم مستقلّون وناشطون في الحركة الطلابيّة، وعناصر من الحزب الشيوعيّ، وشخصيّات أكاديميّة. يروق للائحة تسويق نفسها بصفتها 'الطليعة المدنيّة' القادرة على تحرير المجال العام من قبضة الأمن الحزبيّ والخطاب التحريضيّ. وأعلنت مرشّحتها زينب عثمان، في انطلاق الحملة، أنّ 'الخطر الحقيقيّ على بعلبك ليس الآخر السياسيّ بل الفساد'، مطلقةً برنامجًا من 11 محورًا يبدأ بـ'إنماءٍ مستدام' وينتهي بـ'استعادة الثقّة' بين المجلس البلديّ والمواطن.
ولعلّ أهمّ ما في هذه التجربة أنّها وضعت رهاناتها على الشباب والنساء: في مهرجانٍ انتخابيّ حافلٍ بالرقص والغناء، حاولت 'بعلبك مدينتي' كسر نموذج المهرجانات التعبويّة الصاخبة، لتقول إنّ السّياسة يمكن أن تكون احتفالًا بالحياة لا مرثاةً للتضحية. غير أنّ نجاح هذا الخطاب معلَّقٌ على قدرته في اختراق 'جدار الخوف' الذي يبنيه الحزب حول دوائره الانتخابيّة، إذ يَصعب على المقترع الشيعيّ، خصوصًا في القرى، انقلابُه المفاجئ على حزبٍ يقدِّم ابنه 'شهيدًا' في سوريا أو الجنوب.
رهانات السنّة وورقة 'الأحباش'
وزن الصوت السنّيّ في بعلبك بالغ الأهميّة لأنّه كثيرًا ما يُرجِّح الكفّة عند اشتداد المنافسة داخل الصفّ الشيعيّ. 'الأحباش'، الذين تُقدَّر أصواتهم بنحو ألف، أعلنوا المقاطعة، ما يفتح فراغًا قد تستفيد منه 'بعلبك مدينتي'. في المقابل، لا يزال قسمٌ من الناخبين السنّة، تحت ضغط الحاجة إلى الخدمات، أقربَ إلى 'الثنائيّ' ولو على مضض. وقد نُقل عن حزبيّين أنّهم سيخصِّصون 'حزمة مساعدات' لأبناء الأحياء الفقيرة عشية الانتخاب لردم الهوّة الّتي أحدثها الانهيار الاقتصاديّ وجفاف المنح الإيرانيّة.
العائلات: حلبة الصراع الحقيقيّة
إذا كان الانقسام السياسيّ يتبلور في لائحتين متقابلتين، فإنّ التحالفات العائليّة تخلق 'تحت جلد' هاتين اللائحتين معركةً أخرى لا تقلّ شراسة. فاجتماع آل رعد في الحسينيّة جدد البيعة لـ'الثنائيّ'، فيما رفع آل الدبس راية تأييد ابنهم علي الدبس على لائحة التغيير. أمّا آل عواضة فانقسموا بين مؤيّدٍ لقرار الحزب وآخر يرى في التغيير فرصةً تاريخيّةً لاستعادة حضورٍ بلديّ أضعفه التمثيل الحزبيّ السابق. من المرجّح أن يبقى هذا الانقسام كامنًا إلى أن تكشف الصناديق الأرقام.
تكتيك 'الثنائيّ': احتواء التصدّع بالعصا والجزرة
في مقابل ذلك، أدرك 'حزب الله' باكرًا أنّ 'جبهته الداخلية الشيعيّة' هي الأخطر؛ فأرسل مسؤول وحدة الارتباط، حسين النمر، رسالةً مُشفَّرة إلى أربعة مرشّحين تغييريّين من جذور عشائريّة: 'إنّ أيدينا ممدودة... العاقل بالإشارة يفهم'. الترجمة: انسحبوا كي لا تُتَّهموا بخيانة 'دماء الشهداء'. بعض العائلات تلقّت الإشارة فشدّدت الخناق على أبنائها؛ آل رعد مثلًا أعادوا تأكيد 'الالتزام بالخطّ الحزبيّ'. آخرون، كآل حكمت عواضة، أعلنوا معارضتهم له.
ميدانيًّا، يرفع 'الثنائيّ' منسوب الحشد عبر زيارات نوّابه ومسؤوليه لمنازل الناخبين وتفعيل الماكينة الصحيّة والاجتماعيّة: قسائم محروقات، حصص غذائيّة، وحتى تسويات مخالفات بناء متأخرة. ومع اقتراب يوم الصمت الانتخابيّ، يُتداوَل حديثٌ عن نيّة ضخّ أموال 'ساخنة' لتحييد الأصوات السنّيّة والتخفيف من امتعاض بعض العائلات المسيحيّة.
سيناريوهات اليوم التالي
من الناحية الحسابيّة، تكفي 'بعلبك مدينتي' خروقٌ محدودة لتحويل المجلس البلديّ إلى مساحةٍ صاخبةٍ للنقاش المفتوح، تُعرّي قصور الإدارة المحليّة وتُجبر 'الثنائيّ' على الشراكة أو تُظهر تعنّته أمام الرأي العام. أمّا 'الثنائيّ' فيعتبر المدينة 'خطًّا أحمر' يرمز إلى امتداده الجغرافيّ من جنوب لبنان إلى سوريا (سابقًا)، ما يعني أنّ خسارة مقعد أو اثنين تُترجم مجازيًّا إلى 'خرقٍ سياسيّ' أبعد من مساحته البلديّة المحدودة.
يُجمع مراقبون على أنّ نسبة المشاركة هي العامل الحاسم: إذ تُشير تجارب سابقة إلى أنّ انخفاض الإقبال إلى ما دون 40 في المئة يُغذّي لوائح المعارضة الّتي تملك قواعد أقلّ عددًا وأكثر حماسةً، فيما يُريح ارتفاعه 'الثنائيّ' الذي يحسن تشغيل 'ماكينته' ساعة الحاجة. وترتبط النسبة، بدورها، بمتغيّراتٍ ثلاثة: مزاج الشارع السنّيّ، مدى تفلّت العائلات من الوصاية الحزبيّة، وحركة 'الدولار الانتخابيّ' في ربع الساعة الأخير.
رمزيّة المعركة ومعضلة التغيير
أبعد من الأرقام، تُخاض هذه الانتخابات على معنى العيش المشترك نفسه. فمنذ أن تخلّى النظام السياسيّ عن وظيفته في إنتاج مواطَنةٍ عابرة للطوائف، تَرك للمجتمع المدنيّ مهمّة إعادة ترميم الهوية الوطنيّة المكسورة. وها هي بعلبك تُعيد طرح السؤال الذي شغل ساحة الشهداء منذ تشرين 2019: هل يمكن صنع سياسةٍ 'وطنيّة' في بلدٍ قسّمته الطوائف إلى 'كانتونات' نفسيّة؟ الإجابة لا تزال مُعلَّقة، لكنّ التجرِبة المدنيّة في المدينة، في حدّ ذاتها، خرقًا لجدارٍ اعتُبر حتى الأمس عصيًّا على الاختراق.
أيًّا تكن النتائج، فإنّ معركة بعلبك البلديّة ترسم خطًّا فاصلًا بين مرحلتين: مرحلةٍ أحكم فيها 'الثنائيّ' قبضته بلا منافسٍ يُذكر، ومرحلةٍ بدأت فيها المعارضة المدنيّة، ولو متردّدة، تُنازع على مقعدٍ وصوتٍ وحيّزٍ من الخطاب العام. لا يعني ذلك انقلابًا وشيكًا في موازين القوى، لكنّه يؤشّر إلى اهتزاز يقينٍ قديمٍ بأنّ 'الحزب' لا يُهزَم في معاقله.
Follow us on kataeb.org X