اخبار لبنان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٥ أيار ٢٠٢٥
ينتشر 'النَوَر' في مخيمات عشوائية ضمن جماعات ولا توجد إحصاءات دقيقة لأعدادهم بسبب أن معظمهم غير مقيدين في السجلات الرسمية
سرعان ما تتحول زيارة مخيم 'النور' في منطقة البياض شمال لبنان إلى رحلة استكشافية لجماعة يحيط الغموض أصولها وهويتها وخصوصيتها الثقافية والاجتماعية، تبدأ الرحلة على طريق وعرة، وهو ما يبرز عدم اهتمام الدولة اللبنانية بالتجمعات السكانية الفرعية في البلاد، وما إن تصل إلى المكان حتى تلاحظ أناس لا تفارق الابتسامة وجوههم، يتحدثون بلغة غريبة عن الفصاحة العربية، وهو ما يشي باختلافات بين الغجر وباقي سكان الخيام من القبائل العربية.
داخل المخيم احتفظ السكان بقيم العائلة الكبيرة بفعل الخصوبة المرتفعة، إلا أنه في المقابل، ثمة شيء تغير، حيث حضرت السيارات بقوة وأصبحت وسيلة النقل المعتمدة، كما أن الصحون اللاقطة 'الدش' تتربع على أكتاف الخيام المصنوعة من ألواح الخشب وقطع البلاستيك والقماش، ناهيك بدخول المخيم عالم العولمة والثورة الرقمية، هنا شاب يتابع الأخبار عبر الهاتف، وهناك من يستريح على ظهره يتابع مسلسلاً تركياً، وبين هذا وذاك يحضر أيقونة كرة القدم كريستيانو رونالدو على شكل حركات احتفالية، يقلدها الأطفال أثناء ممارسة لعبة كرة القدم بين الخيام.
قرن من الترحال
داخل خيمتها المتواضعة، تستقبل صبحة (90 سنة) الزائرين، وحولها أبناء المخيم، فهي بمثابة الجدة الأم لثلاثة أجيال من 'الغجر'، وتتحدث 'حارسة الذاكرة الجماعية' التي تخلط أحياناً بين اللغة الأصلية والتركية والعربية عن أصول الجماعة التي ترتحل بين حين وآخر، وربما تستعد قريباً إلى رحلة جديدة.
تقول صبحة 'جئنا من أنطاكية في تركيا، كنا في عنتاب قبل أن نأتي إلى تل الزعتر في لبنان إبان الحرب الأهلية، قبل أن تتعرض المنطقة للقصف، مما دفعنا إلى تغيير مكاننا، وتأسيس مخيم جديد منذ ما لا يقل عن 30 عاماً'، متابعة 'عندما جئنا كان ولدي رضيعاً على صدري أما الآن فقد أصبح جداً'.
وتعتقد السيدة أن 'الإقامة في الخيمة والبرية أفضل من السكن في المباني، ونستمر بالسكن هنا رغم امتلاك البعض مساكن'، وتشير إلى أن 'النور' 'يشتغلون في ما تيسر من مجالات مختلفة لأجل الاستمرار وتحديداً إصلاح الأسنان وطلاء الأحذية'. وتصف السيدة الحالة الصعبة التي يعيشها سكان الخيام بقولها 'أحياناً تطير الخيمة، وأحياناً أخرى تغمرنا المياه، ولكننا مضطرون للتعايش مع الحالة الصعبة'.
تعبر صبحة عن خشيتها من المستقبل لأن 'هناك نية بترحيلنا، ولا نعلم أين نستقر لأن أولادي فقراء'، لافتة إلى أزمة الهوية والقيود بالقول 'عندما غادرنا تركيا تركنا هوياتنا هناك، ومع مرسوم التجنيس حصل أحد أبنائي على الجنسية في 1994، فيما بقي الآخر فاقد القيد ولديه ستة أبناء مثله'.
أصول غير واضحة
ينتشر 'الغجر' في مناطق لبنانية مختلفة، وتحديداً في محافظات الأطراف ويشكل 'النور' جزءاً كبيراً من فاقدي القيد في لبنان، حيث تقدر أعدادهم بعشرات الآلاف، ولم تتمكن الدولة من الوصول إلى حل لمشكلتهم بعد مرور 100 عام على اتفاقية لوزان.
ويعيش هؤلاء ضمن تجمعات متفاوتة الأحجام في شمال لبنان، بين مناطق البياض الضنية، والعيرونية التابعة لقضاء زغرتا، والعبودية قرب الحدود السورية مع عكار، إضافة إلى تجمعات متفاوتة في محافظة البقاع (شرق).
ويفتقر لبنان إلى إحصائية رسمية تبين أعدادهم وتوزيعهم السكاني، على رغم أنهم جزء من ظاهرة أكبر، فمن ناحية حظي البعض منهم كما يؤكدون على الجنسية بموجب مرسوم التجنيس الصادر عام 1994، ومن ناحية أخرى، تتسع ظاهرة عديمي الجنسية في صفوف مجموعة كبيرة منهم.
وبحسب تقديرات عام 2012، يبلغ عدد فاقدي القيد 50 ألف شخص، وهو رقم معرض للارتفاع، حيث تشير دراسات غير رسمية إلى أنهم باتوا بين 80 و90 ألف شخص، وبحسب المادة الأولى من الاتفاقية الدولية في شأن وضع الأشخاص عديمي الجنسية فإن 'عديم الجنسية هو كل شخص لا تعده أي دولة مواطناً فيها بمقتضى قانونها'.
تلفت الناشطة برنا حبيب من جمعية 'رواد حقوق' إلى عدم وجود دراسات خاصة بالرحل، بسبب التعاطي معهم من ضمن فئة فاقدي القيد، مشيرة إلى أن 'إجراءات التسجيل هي نفسها المطلوبة لفاقدي القيد، حيث يفترض امتلاكهم بعض الإثباتات'.
وحدد القانون اللبناني أصول تسجيل المولود من أب فاقد القيد، ففي حال حظي أصول لبنانية وقيود في لبنان، من خلال رفع دعوى قيد نفوس للأب، قبل أن يقوم الوالد بتسجيل زواجه وأولاده على خانته، أما في الحالة الثانية، أي إن أصول الوالد فاقد القيد أيضاً أو عديم الجنسية، ومن ثم فلا قيد لأصوله في لبنان.
ويمكن رفع دعوى الجنسية في حالتين، في حال تمكنه من إثبات ولادته في لبنان، ومجهولية جنسية الوالدين أو عدم اكتساب جنسية أجنبية بموجب رابطة الأرض والبنوة عند الولادة، وفي حال أثبت أنه صاحب أصول عثمانية مقيمة في لبنان بتاريخ 30 أغسطس (آب) 1924، عندما منحت اتفاقية لوزان والقرار 2825 من فرضت عليهم من الأشخاص جنسية إحدى الدول التي فصلت عن الدولة العثمانية خيار الخروج من تلك الجنسية والدخول في الجنسية التركية الجديدة أو في جنسية إحدى الدول الناشئة (المنسلخة عن تركيا)، كما يمكن اللجوء إلى مرسوم للتجنيس وهو أمر شائك وحساس في لبنان، كما جرى عام 1994، وتجنيس أكثر من 108 آلاف فرد من مشارب مختلفة، ولا يزال موضع انتقاد ورفض حتى يومنا هذا.
تسميات في العمق
تنتشر في الأوساط الشعبية جملة تسميات من شأنها الإضاءة على حقب تاريخية لأدوار 'النور' على غرار 'المطاربة'، وفي وقت يتناقل العامة مجموعة من الأخبار تشبه الأساطير عن دور مؤثر للصراع بين الزير سالم، وجساس بن مرة (قاتل كليب شقيق الزير) في نشأة الجماعة وتقاليدها، ومن ثم منعهم من ركوب الخيل في مقابل السماح لهم باقتناء الحمير، وممارسة مهن محددة، وتفضيلهم العيش في الفلاء.
ويستعيد كبار السن في شمال لبنان 'سهرات الغناء والرقص' وحفلات الزفاف، والطبل والزمر التي كان يشعل أجواءها الغجر، حيث يستعيدون 'الليالي التي كانت تحييها نديمة ونعيمة الغجرية حيث يستمر الغناء والرقص لساعات متقدمة من دون أن يكون هناك توزيع للكحول، حيث كانت تقتصر الضيافة على الشاي أو بعض الأكلات الشعبية، ويحضرها أناس من مختلف المناطق، قبل أن يجول شخص ويجمع النقطة (البدل المالي)'.
ويضيف تيسير وهو راوٍ ثمانيني 'كان العرس يستمر لمدة أسبوع أحياناً، حيث كان النور يصلون الليالي بالعزف والغناء والرقص'، و'كانوا يعيشون بيننا لأكثر من 50 عاماً قبل أن نتفاجأ بمغادرتهم المنطقة بسبب نية صاحب الأرض إقامة مبنى إسمنتي'، كما يمتدح مهارة الرجال النور في مجال تركيب وتصليح الأسنان، والتي يتوارثها الأبناء عن الآباء، مؤكداً أنه لا يزال كثير من أبناء القرى يعتمدون على 'طبيب الأسنان الغجري بسبب مهارتهم وقلة الكلفة'.
وفي السياق رفض عديد من 'أطباء الأسنان الغجر' إجراء المقابلة مع معد التحقيق، لعدم تعريضهم للضرر أو الملاحقة، علماً أن عديداً منهم يمارس تركيب الأطقم، ويجولون بالشنطة والعدة على القرى في مناطق الأطراف، ويمتلكون شهرة واسعة.
من جهتها، روت هناء 'كانت القرى تعتمد إلى حد كبير على البائع النوري'، متابعة 'في السابق، لم يكن هناك متاجر لبيع العطور أو أدوات التجميل، وعدة الخياطة والإبر والصابون والأساور والسلاسل وغيرها من المواد الأساسية'. وأضافت هناء 'كنا ننتظر قدوم البائعة أم سمير التي كانت تأتي إلى الحي مرتين في الأسبوع، وكانت البضاعة التي تبيعها جيدة وأصلية، ولا أزال أحتفظ في صندوقي ببعض المقصات أو الإطارات التي اشتريتها منها على رغم انقضاء 30 عاماً على غيابها'.
كما يقوم الرحل بمجموعة من المهن والحرف البسيطة، إذ ينتشر في أسواق لبنان وشوارع المدن الكبرى 'ماسحو الأحذية' التي يعدونها مصدر دخل شريف، وهو ما يخبرنا بها ساهر، الذي انتقل أخيراً للعمل على طول طريق أوتوستراد غزير- جونية (جبل لبنان) من أجل تحقيق دخل أعلى من ذلك الذي يمكن تأمينه في بلدات الشمال، حيث يستمر في العمل لأكثر من 12 ساعة يومياً، قبل أن يعود في المساء إلى مسقط رأسه في عكار.
في المقابل، يستمر كثيرون من هذه الشريحة في الاستعطاء، وتحديداً الإناث، وهو فعل بات يتعرض لانتقاد شديد من قبل بيئة النور أنفسهم، لأن فيه استغلالاً للنساء والأطفال والقاصرين، ويجعلهم عرضة لكثير من الأخطار والانتهاكات.
هوية حضارية خاصة
يمتلك 'الغجر' الرحل هوية حضارية خاصة، بحسب المتخصصة في الأنثروبولوجيا اللبنانية مهى كيال، التي تعود إلى عام 1983 عندما بدأت بدراسة ميدانية مفصلة عن حياتهم، بدأتها في لبنان وعمقتها في أوروبا، وقد اكتشفت أن 'البعض تعود أصولهم إلى ماردين أو بلاد التركمان، وانتشروا في البلاد وصولاً إلى أوروبا'، و'هم فئات عدة، البعض تعمل نساؤهم في التسول، ولكن هناك فئة كبيرة تعتمد بحياتها على تصليح وتركيب الأسنان وعلاجها بأسعار في متناول الطبقة الفقيرة'. وتتحدث كيال عن الخصوصية الثقافية التي تتجسد من خلال 'حديثهم بلغة غير مفهومة من الزائر، وهي لغة من أصول هندو-آسيوية' وهو ما عايشناه شخصياً خلال زيارة المخيمات، وتعد الكيال أن ثمة رابطاً بين عدم تسجيل المواليد، وثقافة الترحال الدائم وعدم الاستقرار، و'هم على عكس القبائل العربية التي تصر على تسجيل أولادها والحصول على الجنسية اللبنانية، ومن ثم تصحيح الخلل الناجم عن عدم شمولها بالإحصاء عام 1932، ناهيك بالتمسك بأصولها وروابطها في المنطقة، واستمرار خضوعها للأعراف وشيخ القبيلة والعادات والتقاليد، ورفض الزواج من خارج الجماعة'.
تضيف متخصصة الأنثروبولوجيا، 'لقد اكتشفنا خلال الدراسة في أواسط الثمانينات أنه لدى عرب خويلد في حال لم توجد فتاة مكافئة للشاب بالسن، يعطى زوجة أكبر منه سناً، لأن الزواج من الجماعة إلزامي، فيما تتعرض البنات للتبرؤ منها وهدر الدم في حال زواجها من الخارج'، لافتة إلى 'تطور بارز على المستوى المادي من خلال الانتقال للعيش في المباني على خلاف حال النور الملازمين للخيم'.
كما تتطرق كيال إلى انتشار 'النور' في الدول الأوروبية في سويسرا وإسبانيا وفرنسا ومختلف الدول، إذ 'ينتقلون من بلد إلى آخر عبر الحدود من دون هوية، ونشأت مشكلة كبيرة عندما حاولت دول التخييم فرض بعض القيود، أو سحب الأطفال من أجل تعليمهم، وأدى استئصال الأطفال من أسرهم لفرض التحضر- التمدن إلى مشكلات نفسية'، وعلى رغم 'كل الإجراءات رفض الغجر العيش في موطن ثابت لأن ثقافتهم قائمة على الترحال، والحفاظ على الهوية المليئة بالغناء والموسيقى'.
وفي لبنان، تكشف نهلا، وهي إحدى سيدات 'النور' عن جانب من حياتهم، حيث 'تحمل طفلها في الصباح الباكر، وتقصد القرى من أجل التسول والاستعطاء، فيما يجلس زوجها العامل بمجال الطبل والزمر في البيت بانتظار قدوم أحد الزبائن، وطلبه من أجل إحياء حفلة ما'.
الخيمة هي عالمنا
مع مرور الوقت، تكرست الروابط الوثيقة بين الخيمة وسكانها، وهو ما يعبر عنه حكمت (30 سنة)، فهو يعبر عن تعلقه بها بقوله 'من يسكن الخيمة يعتاد عليها، وعوضاً عن الاستحمام بالرشاش فإنه يقوم بتسخين المياه لاستخدامها، ومن ثم لا يمكن المبالغة والقول إنها حياة صعبة، لأننا نعتاد عليها من الصغر'، ويلفت إلى تغيير جوهري في تنظيم حياتهم، حيث 'بدأ الجيل الجديد بتسجيل وثائق الزواج، والمواليد الجدد في الدوائر الرسمية'، متحدثاً عن ملف التجنيس بقوله 'في عام 1994 تجنس كثر، ولكن بقيت شريحة من دون تجنيس رغم تقديمها ملفات وطلبات إلى السلطات بسبب عدم امتلاكها المال الكافي'. ويخشى حكمت من احتمال طردهم من مكان المخيم، لأن 'البعض لا يملك 10 دولارات في خيمته، كيف له أن تطلب منه مغادرة مكان ولادته وتنشئته'.
جماعة عالمية
كثيرة هي الألغاز التي تحيط حياة 'الغجر' أو 'نور' لبنان، وينتمي هؤلاء إلى المجتمعات المحلية ذات الخصوصية، إذ لا يمكن تحديد عدد نهائي للغجر والنور في لبنان لعدم وجود قيود رسمية خاصة بهم، إضافة إلى عدم تسجيل المواليد وتركهم لمصيرهم فاقدي القيد في ظل ارتفاع كبير في الخصوبة وانخفاض سن الزواج، وهو ما يمكن ملاحظته للعيان في أرجاء المخيمات والطرق المؤدية لها، حيث يثقل كاهل الأطفال حمل الأصغر منهم في السن، إلا أن جزءاً منهم حصل على الجنسية عام 1994، وانتقلوا للسكن في بعض المناطق، ويأتون للمشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية مثلاً.
تشير المتخصصة في الأنثروبولوجيا سوزان منعم إلى أنه 'في يومنا هذا تغيرت المعادلة، وأصبحت تلك القبائل تشكل قوة ضاغطة في بعض القرى والمناطق اللبنانية بعد تجنيسهم، حيث تخطى دورهم المستوى الزراعي ليشمل مستويات أخرى متعددة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها'. وتلاحظ منعم تبدلاً في بعض نواحي حياتهم في ظل الحداثة 'نتجت تغيرات اجتماعية، وتخليهم عن بعض عاداتهم وتقاليدهم أو حتى تنقلهم الموسمي إلى مناطق غير تلك المناطق التي وجدوا فيها في الأصل'، لافتة إلى 'تغيير في مسار حياتهم للتكيف مع واقعهم الجديد على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية'.
في السياق يفتخر 'الغجر' الرحل بانتشارهم في مختلف أنحاء العالم وتحديداً في لبنان وسوريا، يقول حكمت 'نحن منتشرون في دول العالم كافة، حيث توجد لهجة الضم التي يصفها الناس بالنور، وعندما نلتقي أحداً نسأله عن أصوله، وإن كان ينتمي إلى قبيلتنا'، ويتطرق إلى مسألة اللغة 'نتحدث لغة الضم التي تتناقل بين الأجيال، وتختلف أصولها بين الأرباطي أو الكردي'.
يميز حكمت بين فئتين من الضم، فئة المتعلمين والعاملين في مهن حرفية، إذ يتولى الرجل إعالة أسرته، وفئة أخرى تعتمد على مهنة 'الطبل والزمر' وتخرج نساؤهم للعمل خارج المنزل، إلا أن الفئات على اختلافها تعيش في ظروف سيئة، حيث تفتقر المخيمات إلى البنى التحتية، حيث تسيل المياه بين البيوت محدثة مجاري طبيعية داخل التراب، كما أنها غير محمية من هجمات الحيوانات البرية أو الحشرات التي تعيش على تجمعات المياه غير النقية.