اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٥ كانون الأول ٢٠٢٥
ضحى عبدالرؤوف المل
لا يستعير الفنان «نزار ضاهر» شكل الشجرة أو السهل أو السماء، بل يعود إلى مادتها الأولى، إلى نبضها الخفي، إلى ما يسبق الصورة قبل أن تتكرّس كصورة. وحين نتأمّل لوحاته في معرض وسط بيروت (مايا آرت غاليري)، ندرك أنّ ما نراه ليس مناظر طبيعية، بل بُنى كونية تُعاد صياغتها من الداخل. نرى أشجاراً، ليست شجراً بالمعنى التمثيلي، هي مراكز طاقة، كتل ضوئية، حشود لونية تنبثق من صمت الطبيعة. إنّها لحظة انبثاق، لا لحظة تمثيل. ليست انطباعية ولا تجريدية فقط، بل هي من النوع الهجين الذي يمسك بين العقل الهندسي والبصيرة الحسيّة، بين الحساب والنَفَس، بين الطين والسماء. ولذلك فإن فهمها يقتضي تفكيك المواد التي بُنيت منها، والهندسات التي تقف خلفها، والطقس الروحي الذي يشكّلها. فهل هو فنان لا يرسم الطبيعة كما تُرى، بل كما تتنفس؟
لا يكتفي ضاهر بالزيت، بل يذهب إلى ما هو أقدم من الأصباغ الحديثة أي إلى التراب، الرمل، مسحوق الحجر، ذلك الخليط الذي لطالما استخدمه فنانو العصور القديمة والحديثة الذين أرادوا للّون ألا يكون مجرد مادة طيّعة، بل جزءاً من الأرض نفسها. ففي لوحاته في هذا المعرض، يظهر اللون في عدة مناطق وكأنه محبّب، كثيف، ذو انكسارات دقيقة لا يمكن الحصول عليها من مواد خالصة. هذا التنوّع في الكثافات اللونية يشكّل شكل رقائق وأحياناً كأنه يشير إلى أنّ المادة ليست مطواعة بسهولة، بل ذات مقاومة طبيعية. هذه المقاومة هي العنصر الذي يمنح اللوحة ثرائها. فحين يُمزج اللون بالتراب يصبح أقل لمعاناً، أكثر امتلاءً، أكثر خشونة، وأكثر علاقة بالأصل الطبيعي. ولا يعود اللون سطحاً يغطي القماش، بل يتحوّل إلى جلد، إلى طبقة جيولوجية من طبقات المشهد. عند هذه النقطة، لا تبقى الشجرة أو الأرزة مرسومة؛ بل كأنها منقوشة داخل السطح. وفي هذا الأسلوب، يتحوّل اللون إلى موقع زمني. فالملمس الترابي يوحي بأن اللوحة ليست حدثاً بصرياً فحسب، بل زمناً مترسّباً، ذاكرة متحجّرة، كأنّ الشجرة لم تُرسَم اليوم، بل مضت آلاف الأعوام لتتشكّل، شأنها شأن الطبقات الأرضية.
هذه العلاقة بالتراب ليست جزءاً من التقنية فقط، بل من الرؤية، فالفنان يريد أن يعيد الطبيعة إلى عناصرها ومادتها الأولى، يريد للألوان أن تحيا لا أن تُطلَى. وهذا هو جوهر الفن القائم على الملمس الطيني أو المزيج الأرضي، فهل لوحاته قائمة على هندسة صارمة، لكنها غير مصرح بها، وهي أشبه بهيكل عظمي غير مرئي يمسك بالعمل من الداخل؟ فهل ثمة محور عمودي يقسم الكتلة النباتية إلى جانبيها؟ وهل هذا المحور لا يُرى مباشرة، لكنه يُلمَس؟
هذا المحور الذي تساءلت عنه هو الذي يضبط التوازن بين الامتداد الأفقي للأغصان والانسياب العمودي للصعود. وهذا المحور يمنح الشجرة وقوفاً لا يترنّح، وحضوراً يُشبه حضور الإنسان واقفاً للرياح. فالأرزة تتشكّل وفق بناء يشبه المثلث المقلوب، أي قاعدة ضيّقة عند الأسفل، وقمة واسعة عند الأعلى. هذا التكوين يمنح الشعور بأن الأرزة ليست مجرّد كيان نباتي، بل كتلة ضوئية تصعد، تتوسع، تتنفس. وهذا ما يجعلها تبدو «حاضرة» مثل سحابة ثقيلة، لا كجسد جامد. كما أننا نجد خطاً أفقياً واضحاً أسفل أرزاته، شديد الرسوخ، يشكّل أرضية تامة للتكوين. هذا الخط، رغم بساطته، هو الذي يحوّل الفوضى اللونية العلوية إلى تكوين متوازن. وكأنه يقول لنا في هذا المعرض حتى الضوء يحتاج إلى أرض يقف عليها.
الأرزة في لوحاته ليست كائناً مغلقاً، بل كائناً مفتوحاً على احتمالات الضوء والهواء. فأرزته كتلة ضبابية، كتلة لونية كبيرة، كثيفة، بلا معالم دقيقة. تُشبه تجمعاً نباتياً أو غيمة خضراء تمشي فوق الأرض. وفي بعض لوحاته تظهر بنيتها الداخلية، وتبدأ الخطوط والهندسة بالظهور إلى السطح، رغم بقائها ضمن الإطار التجريدي. هذا الانتقال من الكتلة إلى الكيان يشير إلى تطوّر داخلي في عملية الرسم نفسها. فلوحاته بشكل عام في هذا المعرض تحقق درجة أعلى من الوضوح دون أن تتخلّى عن الروح التجريدية.
فهل لوحاته في هذا المعرض ليست مرسومة بالمعنى التقليدي، أم مبنيّة أو مطروحة على السطح مثل كائن خرج للتوّ من الأرض؟ وهل بهذا يتحوّل العمل الفني إلى حدث، إلى ولادة، ويصبح اللون ليس مجرد جمال أم نشأة؟ وهل تصبح الطبيعة عند نزار ضاهر عالماً مريحاً للبصر والتحرر والتنفس البصري غير المحدود؟











































































