اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الديار
نشر بتاريخ: ١٠ أيار ٢٠٢٥
منذ أن تمّ انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، شهد اللبنانيون تحوّلاً في الخطاب الرسمي: وعود بالشفافية، وإصرار على الإصلاح، ونيّة صريحة لوضع حدّ للفساد المستشري. قالها بوضوح في خطاب القسم: 'لن أساير ولن أُغطّي'، واضعًا معيار الكفاءة والنزاهة فوق كل اعتبار، في بلدٍ أنهكته الزبائنية الطائفية والمحسوبيات السياسية. لكنّ الجميع يُدرك أن الرئيس عون لا يحمل عصاً سحرية، وأنّ تركة العهد السابق ثقيلة، مليئة بالارتكابات التي أوصلت الدولة إلى حافة التفكك والانهيار.
فما زرعه العهد السابق من فوضى، واستباحة للمؤسسات، وسوء إدارة ممنهج، لا تزال نتائجه الكارثية تتجلّى كل يوم. لقد شهدنا في تلك المرحلة انهيارا متسارعا للمؤسسات من الداخل، بفعل التدخلات السياسية، وتكريس المحسوبيات، وغياب المحاسبة، حتى تحوّلت الإدارات العامة إلى مسارح للرشوة ومراتع للفساد. وإن هيئة إدارة السير، لاسيما مصلحة تسجيل السيارات (النافعة)، كانت النموذج الأوضح: فساد مستشرٍ، رشى معلنة، شبكات محمية، وابتزاز للمواطن في كل معاملة.
إلى جانب ذلك، جاءت ملاحقات قضائية شعبوية استعراضية، قادتها قاضية مرتبطة بخط سياسي معروف، استُخدمت قراراتها كسلاح سياسي، لا كأداة عدالة. وقد أدّت هذه القرارات إلى إقفال مؤسسات الدولة الأساسية فقط في جبل لبنان، حيث الوجود المسيحي الأكبر، في استهداف واضح لما تبقّى من حضور مسيحي في الإدارة، تحت شعارات براقة ولكن مدمّرة. كانت النتيجة شللاً عاماً، لا تحقيق عدالة، ولا تطهير فساد، بل مجرد فوضى منهجية قضت على ما تبقّى من هيكل الدولة.
ورغم هذا الخراب، بقيت مؤسّسة قوى الأمن الداخلي صامدة في وجه الانهيار. وبرغم الأزمة المالية الخانقة، التي أرهقت العسكريين والضباط وأضعفت رواتبهم الشهرية. ظلّت هذه المؤسسة وفية للدولة، متمسّكة بالقانون، ورافضة أن تتحوّل إلى أداة في يد أي جهة سياسية. ولعلّ هذا الثبات لم يكن ممكناً لولا وجود قيادة جديدة برئاسة اللواء رائد عبدالله، تُعيد ترميم ما هُدّم، وتُثبت أن قوى الأمن ليست تابعة لعهد، بل لمبدأ الدولة بحدّ ذاتها.
اليوم، من بوابة رئاسة هيئة إدارة السير، يُعاد اختبار هذه الإرادة. فهذه الإدارة، التي تُدار حالياً بالتكليف من قبل محافظ بيروت، تنتظر تعيين رئيس جديد يعيد إليها شيئاً من المهنية والفعالية. وكالعادة، ظهرت الضغوط السياسية والطائفية، ومحاولات فرض أسماء من قبل نواب وجهات متنفّذة. لكن حتى الآن، أصرّ الرئيس جوزاف عون ووزير الداخلية العميد أحمد الحجار ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء رائد عبدالله على عدم الخضوع لأي تسوية، واضعين الكفاءة والسيرة النظيفة كشرط أساس لأي تعيين.
في هذا السياق، تمّ تكليف العميد نزيه قبرصلي (دورة 1995) برئاسة مصلحة تسجيل السيارات. وهو ضابط مشهود له بالنزاهة والشفافية، بحسب شهادة وزير الداخلية نفسه، وله سجل نظيف وخبرة متراكمة في الإدارة. وإذا تقرّر تعيين رئيس جديد لإدارة هيئة السير من الطائفة الأرثوذكسية، فهناك عدد من الضباط الأعلى رتبة من العميد قبرصلي، يمكن النظر في أسمائهم وسيرهم الذاتية، أبرزهم:
• العميد الياس يونس (دورة الحربية 1994 – الترتيب 16)
• العميد ربيع مجاعص (دورة الحقوقيين – الترتيب 21)
• العميد ايلي البيطار (ضابط إداري – الترتيب 36)
• العميد جهاد صليبا (دورة الحقوقيين – الترتيب 70)
• العميد وسام صليبا (دورة الحقوقيين – الترتيب 79)
لكنّ المعيار الذي يجب أن يُعتمد لا يقتصر فقط على التراتبية، بل يجب أن يشمل دراسة فعلية لأداء هؤلاء الضباط، وتقييمًا دقيقًا لإنجازاتهم السابقة، ومدى قدرتهم على قيادة مؤسسة متعثرة مثل النافعة، بنزاهة وكفاءة، وبعيدًا عن الاعتبارات السياسية.
فهيئة إدارة السير لم تعُد مرفقا إداريا عاديا، بل أصبحت نموذجاً للدولة إما أن تُصلَح، أو تُكرَّس كدولة مافيات ومساومات. المطلوب ليس تعييناً صورياً، بل مسؤولًا يعرف ماذا تعني الإدارة، ويملك الجرأة على المواجهة، والقدرة على تحويل هذا المركز إلى نقطة ضوء في دولة معتمة. ولا يجوز أن يكون الإصلاح مجرّد عنوان، بل رؤية تُنفّذ، تبدأ من مؤسسات مثل النافعة التي اعتاد المواطن أن يذلّ فيها، وأن يشتري حقه بالرشوة.
اليوم، نقف أمام فرصة نادرة: أن نعيد تكوين الإدارة على أسس نزيهة، بعيداً عن الطائفية والتبعية، وأن نثبت فعلاً أن عهد جوزاف عون ليس استمراراً لما قبله، بل بداية جديدة تُبنى على الكفاءة لا الولاء، وعلى الشفافية لا المحاصصة. فهل نُحسن الاختيار هذه المرّة، أم نُعيد إنتاج الخلل ذاته بحجج مختلفة؟