اخبار لبنان
موقع كل يوم -وزارة الإعلام اللبنانية
نشر بتاريخ: ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
كتبت الدكتورة فيولا مخزوم مقالا تحت عنوان “اقتصاد الانتباه: كيف تُباع عقولنا للإعلانات والخوارزميات دون أن ندري؟”، أوضحت فيه كيف يقوم النظام الاقتصادي الجديد باسم “اقتصاد الانتباه”، حيث يتحوّل انتباه الفرد، بوعيه ولا وعيه، إلى السلعة الأكثر قيمة وربحية. وجاء في المقال:
يخوض العالم اليوم سباقاً غير معلن للسيطرة على عقل الإنسان، سباقاً لا تُستخدم فيه الجيوش ولا الأسلحة، بل تُستخدم فيه الخوارزميات والإعلانات والبيانات الضخمة. ويُعرَف هذا النظام الاقتصادي الجديد باسم “اقتصاد الانتباه”، حيث يتحوّل انتباه الفرد، بوعيه ولا وعيه، إلى السلعة الأكثر قيمة وربحية.
ولا يرتبط هذا التحوّل بمجرد تطوّر تقني، بل بثورة كاملة تعيد صياغة العلاقة بين الإعلام والجمهور، وبين المواطن والدولة، وبين الإنسان وذاته.
بدأت ملامح هذا الاقتصاد بالترسّخ عندما نجحت شركات التكنولوجيا الكبرى في ابتكار منصّات رقمية قادرة على جمع بيانات المستخدم وتحليلها لحظة بلحظة. ونتيجة ذلك، لم يعد وقت الإنسان فعلاً حراً، بل أصبح مورداً اقتصادياً يُباع ويُشترى. وتعمل الشركات على تطوير آليات لجذب الاهتمام البشري وتوجيهه بطريقة تخدم مصالحها التجارية والسياسية. وتجري هذه العملية غالباً بصمت، دون أن يشعر المستخدم بأنه أصبح طرفاً في سوق عالمية تستخدم بياناته كعملة، ووعيه كمنتج، وزمنه كاستثمار.
تتحرك الخوارزميات اليوم بسرعة تفوق قدرة الإنسان على الإدراك. وتبدأ هذه الخوارزميات بدراسة أدق تفاصيل سلوك المستخدم: ما الذي يحبّه؟ ما الذي يخشاه؟ في أي وقت يشعر بالملل؟ كيف يتفاعل مع الصور والفيديوهات؟ ثم تستخدم هذه المعلومات لتقديم محتوى مُفصّل على قياسه بدقة، على نحو يجعل المستخدم يستمر في التفاعل، ويمنح وقته دون أن يدرك أن الوقت نفسه هو “المكسب” الحقيقي للشركة.
وتتضاعف خطورة هذا المشهد عندما تستخدم المنصّات هذه البيانات ليس فقط لعرض محتوى، بل لتوجيه المزاج والرأي والقرار.
تُصبح العملية أكثر تعقيداً عندما تدخل الإعلانات الموجّهة على الخط، حيث يعمل النظام الدعائي الجديد على أساس التنبؤ بسلوك المستخدم، بل التأثير فيه قبل حدوثه. وتستطيع الشركات اليوم، بفضل الذكاء الاصطناعي، معرفة ما يحتاجه الفرد قبل أن يعي هو ذاته حاجته. ويحوّل هذا التنبؤ الاقتصاد الرقمي إلى مساحة من “الهندسة النفسية”، حيث يصبح المستخدم هدفاً لعمليات تسويقية شديدة الدقّة، تتجاوز حدود الإعلان التقليدي إلى التأثير في أسلوب الحياة وتحديد الأولويات وحتى بناء الهويات الفردية والاجتماعية.
يشتد تأثير اقتصاد الانتباه عندما يترافق مع انتشار المحتوى المضلِّل. وتُظهر التجارب العالمية أن المحتوى الأكثر تأثيراً ليس بالضرورة الأكثر صدقاً، بل الأكثر قدرة على إثارة الانفعالات. وتؤدي هذه السمة إلى انتشار الأخبار المضلّلة، ونظريات المؤامرة، والرسائل التحريضية، لأنها تزيد نسبة التفاعل، وبالتالي تزيد أرباح المنصّات.
وبمجرد دخول المستخدم إلى هذه الدائرة، يجد نفسه محاطاً بفيض من المعلومات التي قد لا تعكس الحقيقة، لكنها تعكس ما تراه المنصّات مناسباً لإبقائه متصلاً أطول وقت ممكن.
يتحوّل المشهد الإعلامي هنا من مساحة تواصل إلى مساحة تُدار من خلالها العواطف الجماعية. وينتقل الجمهور من متلقٍّ للخبر إلى مستهلك للانفعال، ومن مشارك في الرأي العام إلى هدف لعمليات التأثير الخوارزمية. ولا يقتصر تأثير هذا الواقع على السلوك الفردي فحسب، بل يمتد ليشمل الانتخابات، والحملات السياسية، واتجاهات الرأي، ومسارات النقاش العام.
ويصبح المجتمع أمام تحدٍّ حقيقي: كيف يحمي نفسه من التلاعب غير المرئي؟ وكيف يواجه قوة رقمية هائلة تتحرك وفق منطق تجاري بحت، لا يعترف بالحقيقة إلا بمقدار ما تخدم انتشار المحتوى؟
تتفاقم المشكلة في عالمنا العربي بسبب ضعف الوعي الرقمي، واتساع فجوة التربية الإعلامية، ونقص التشريعات التي تحمي البيانات الشخصية. ويجعل هذا الواقع المواطن أكثر عرضة للتأثير، وأكثر قابلية للانجرار وراء المحتوى السطحي أو التحريضي.
وبينما تتسابق المنصّات العالمية للسيطرة على وقت الفرد العربي، تتراجع ثقة الجمهور بوسائل الإعلام التقليدية، في حين يُترك المواطن في قلب عاصفة رقمية دون أسلحة معرفية كافية لمواجهة ما يتعرض له من استهداف ممنهج.
يستطيع الإعلام أن يستعيد دوره الإنساني في هذا السياق إذا تبنّى رؤية جديدة تتجاوز نقل الحدث نحو تحليل الآليات الرقمية التي تُشكّل وعي الجمهور. ويستطيع الإعلامي أن يصبح لاعباً أساسياً في حماية الوعي، ليس فقط من خلال التوعية، بل من خلال كشف كيفية عمل الخوارزميات، وتفسير أساليب التأثير، ومواجهة اقتصاد الانتباه بمحتوى يحترم العقل ولا يستثمر في الانفعال.
ولا يتحقق هذا التحوّل إلا عبر تدريب إعلاميين قادرين على فهم التكنولوجيا وتفكيك خطابها، وإنتاج محتوى مسؤول يعيد بناء الثقة بين المنصّات والجمهور.
تُظهر التجارب الدولية أن المجتمعات القادرة على مواجهة اقتصاد الانتباه هي تلك التي استثمرت في التربية الإعلامية. ويتيح هذا النوع من التربية للطلاب والمواطنين فهم طبيعة الخوارزميات، وآليات صناعة المحتوى، وكيفية حماية خصوصياتهم، وكيف يميّزون بين المحتوى الهادف والمحتوى الموجَّه.
ولا يمكن لأي مجتمع أن يحافظ على قدرته على النقد والإبداع دون برامج وطنية شاملة تعزّز التفكير النقدي، وتمنح الأفراد قدرة على التعامل الواعي مع التكنولوجيا.
تتمتع الدولة اللبنانية بفرصة حقيقية للعب دور رائد في بناء ثقافة إعلامية رقمية تحمي المواطن. ويستطيع هذا الدور أن يبدأ من خلال التشريعات التي تنظّم جمع البيانات، وفرض معايير شفافية على المنصّات، وتطوير برامج توعية مستمرة في المدارس والجامعات.
وتستطيع وزارة الإعلام أن تقود هذا التحول عبر إطلاق حملات وطنية تعرّف المواطن بالحقوق الرقمية، وأساليب حماية البيانات، ومخاطر الانخراط غير الواعي في المنصات.
تنطلق الحاجة اليوم نحو خطاب إعلامي جديد يعيد الاعتبار للعقل وسط ضجيج المحتوى المتسارع. ويمنح هذا الخطاب الإنسان قدرة على استعادة وعيه وإيقاع حياته، بعدما حوّلت التكنولوجيا انتباهه إلى سلعة تُتداول في السوق.
ولا يمكن أن يواجه المواطن اقتصاد الانتباه إلا إذا أدرك أنه ليس مجرد مستهلك للمحتوى، بل هو جزء من معركة على الوعي تشارك فيها الشركات والمنصّات والدول.
ونصل هنا إلى لحظة حاسمة وهي لحظة الإدراك أنّ الدفاع عن الانتباه ليس ترفاً فكرياً، بل مسؤولية جماعية تشبه الدفاع عن حرية الرأي والقرار. ويتطلب هذا الدفاع وعياً، وتعليماً، وتشريعاً، وإعلاماً يلتزم بقيم الحقيقة، ويُدرك أنّ دوره لم يعد مجرد نقل المعلومة، بل حماية العقل الذي يستهلكها.
وبقدر ما ينجح المجتمع في فهم ما يجري خلف شاشة هاتفه، بقدر ما يستطيع حماية ذاته من تلاعب غير مرئي قد يوجّه قراراته ويعيد تشكيل رؤيته للعالم دون أن يشعر.











































































