الحرب مع اليمن أوكرانيا جديدة لأميركا

كتب ناصر قنديل في 'البناء'

لا يمكن ولا يجوز الفصل بين خطاب وسعي الرئيس الأميركي دونالد ترامب للخروج من الحرب الأوكرانية، بلبس قبعة الوسيط، وبين الفشل الأميركي في هذه الحرب وتحوّلها إلى حرب استنزاف بلا أفق، بل قد يكون ثمة علاقة بين هذا الفشل والحاجة للخروج من الحرب بأقلّ الخسائر أمام روسيا بلس قبعة الوسيط، وبين تغاضي بعض الدولة العميقة في أميركا عن وصول ترامب ومساهمة بعض آخر بوصوله، ويمكن تخيّل الوضع لو كانت قد نجحت الحرب كما رسمتها الدوائر الأميركية كفخّ تقع فيه روسيا وتتبعه الحزمة القاتلة من العقوبات وتسقط العملة والمصارف ومعهما الدولة، لعلنا كنّا عندها نرى مشهداً عالمياً مختلفاً ومشهداً أميركياً مختلفاً.

إذا أسقطنا المعايير المرافقة للحرب الأوكرانية على مكانة روسيا وفقاً للنظرة الأميركيّة، وانتبهنا إلى حجم التنازلات التي تقدّمها أميركا دونالد ترامب لروسيا فلاديمير بوتين، خصوصاً القبول بما لم يكن مقبولاً في الجغرافيا، سواء في القرم وشرق أوكرانيا وما يرتّبه ذلك على كل المشهد الأوروبي، وإذا انتبهنا الى أن خريطة جيواستراتيجية جديدة ترسم من أوكرانيا، بعكس الجغرافيا الجيواستراتيجية التي كان يفترض أن تولد من الحرب لو سارت الأمور كما رسمتها واشنطن وسارت خلفها أوروبا وأوكرانيا، سوف ندرك أن واشنطن خاضت حرباً وخسرتها وتحاول تدارك الهزيمة الكاملة بإعادة توزيع خسائر الحرب على حلفائها، وأن ترامب وصل إلى البيت الأبيض وهذه إحدى المهام المنتظر منه القيام بها.

شخصية ترامب المناسبة لإخراج أميركا من مأزق حرب أوكرانيا، كانت ضمن معادلة معاكسة بالنسبة لإيران وقوى المقاومة في المنطقة، وقد وصل ترامب إلى الحكم وحرب المنطقة مشتعلة وقرر خوض غمارها على هذه الخلفية، ربح المواجهة مع إيران بالتوازي مع الانكفاء من حرب أوكرانيا، وكانت اليمن ساحة تعديل موازين القوى مع حلف كامل تقوده إيران، والهدف أبعد من مجرد مناصرة «إسرائيل» ومحاصرة إيران، وفي استراتيجيات العسكرية الأميركية تعززت مكانة البحار والسيطرة على الممرات المائية بعد فشل الحرب في أفغانستان، والخلاصة القائلة إن السبب هو التورط الخاطئ في حروب اليابسة، بينما السيطرة على العالم تتمّ من البحار، والبحر الأحمر في هذه الاستراتيجية أهم الممرات المائية العالمية، حيث تعبر منه نصف تجارة الطاقة في العالم، ويمر فيه ثلث التجارة العالمية، ويربط بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويأتي بلد صغير فقير ضعيف هو اليمن لينازع أميركا السيادة على الملاحة في هذا البحر، ليقرّر مَن يعبر منه ومَن لا يعبر؟

بعد سنة ونصف من الحرب على اليمن، منها أكثر من شهر من الحملات المكثفة عسكرياً التي تشبه الحملات الأميركية الكبرى في حرب فيتنام، بعشرات الغارات يومياً باستخدام القاذفات بي تو وإسقاط القنابل الثقيلة بأطنان من المتفجّرات على رؤوس اليمنيين، ويأتي تقرير نشرته مجلة الفورين بوليسي المحافظة مهنياً، ليقول إن الحرب فشلت فشلاً ذريعاً، وإن كل الكلام عن أن المزيد من الوقت سوف يظهر أن الحرب تنجح، هو ذرّ للرماد في العيون، ويقول قادة عسكريون أميركيون للمجلة إن لا أمل بربح الحرب، وإن القدرات اليمنية لا تزال بوضعية تتيح لها مواصلة ممارسة سيادتها في البحر الأحمر، واستهداف حاملات الطائرات والسفن الأميركية، وإيصال الصواريخ الفرط صوتية إلى عمق كيان الاحتلال، و»يرى خبراء عسكريون أن مشاركة حاملتي طائرات أميركيتين في هذه العمليات لم تُحدث التأثير المطلوب في ظل ما وصفوه بإصرار صنعاء على توسيع نطاق عملياتها ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية وعلى رأسها الهجمات الأخيرة التي استهدفت قاعدة رامون وطائرات متقدّمة من نوع MQ-9». وتساءل الخبير البحري أليسيو باتالانو في التقرير عن جدوى هذه الحملة قائلًا إنه إذا كان الهدف هو حرية الملاحة فهي ليست مجدية فعليًا وأضاف أنه لا يمكن دعم فكرة أن منطقة المحيطين الهندي والهادئ هي أولوية أميركية بينما يتمّ سحب موارد حيوية منها لصالح عمليات في الشرق الأوسط.

من جهة مقابلة لا يمكن فصل انطلاق المفاوضات الأميركية الإيرانية، والنتائج التي أفضت إليها حرب البحر الأحمر، بعدما قالت واشنطن إن في الحرب محاولة إفهام إيران ما ينتظرها إن لم تستجب للشروط الأميركية، وحتى لو شهدت المفاوضات تجاذبات صعوداً وهبوطاً، يبقى أن الرسالة اليمنية جاءت عكسية بأنها قالت لأميركا ما ينتظرها إن ذهبت إلى الحرب مع إيران، ومع اليمن لا تستطيع واشنطن أن تتصرف كما في أوكرانيا لأن جيشها هو الذي يقاتل في البحر الأحمر، وإذا كان طريق الخروج من هذه الحرب الفاشلة هو إيقاف الحرب الإسرائيلية على غزة، ليوقف اليمن قرار استهداف السفن العابرة من البحر الأحمر، فقد نشهد تنشيطاً لمسار التفاوض حول غزة، وتبريداً للتفاوض مع إيران، لكن النتيجة واحدة، هي تراجع العسكرة في المنطقة بعدما ثبت أن للقوة النارية الأميركية الاسرائيلية حدوداً لا تستطيع تجاوزها في صناعة السياسة، سواء على اليابسة التي فشل الجيش الإسرائيلي ببسط السيطرة عليها، رغم نجاحه بقتل عشرات الآلاف وتدمير مئات آلاف المساكن، أو في البحار حيث فشلت حاملات الطائرات وآلاف أطنان القنابل في فرض الإرادة على اليمن، رغم قتل المئات وتدمير عشرات المنشآت المدنية والبنى التحتية المدنية.