اخبار لبنان
موقع كل يوم -صحيفة الجمهورية
نشر بتاريخ: ٢١ أيار ٢٠٢٥
في دراما حميمة وانطباعية من توقيع روبرتو مينيرفيني، تواجه مجموعة من كشافة الحرب الأهلية قسوة الواقع في أراضي مونتانا غير المستكشفة.
السماء ملبّدة بالغيوم والنبرة تأمّلية في فيلم «الملعونون»، إذ تنطلق فرقة صغيرة من جنود جيش الاتحاد في عام 1862 لاستكشاف أراضٍ مجهولة وخطرة في الغرب الأميركي.
لكن ما يتكشّف لنا أقرب إلى قصيدة مزاجية منه إلى فيلم حربي. وبما يتماشى مع الحسّ الاجتماعي الواعي لمخرجه الإيطالي المولد روبرتو مينيرفيني، يتشكّل «الملعونون» كدراسة حزينة وهادئة لتفاصيل البقاء.
وعلى رغم من أنّه يُعلَن كأول فيلم روائي له، إلّا أنّه يتأرجح بشكل مغرٍ على خطٍ قابل للاختراق بين السرد الوثائقي والروائي. فالأحداث غير مكتوبة مسبقاً، والشخصيات غير مسماة إلى حدٍ كبير، وتنبثق بشكل عضوي من توجيهات المخرج خارج الكاميرا ومن انغماس الرجال في حياة المعسكر، حيث تدور معظم أحداث الفيلم.
هذا يعني أنّنا نتابع لفترات طويلة الجنود وهم ينصبون الخيم، يلعبون الورق، يغسلون ملابسهم، ويشكون من الشتاء المتفاقم والحصص الغذائية المتضائلة. ونحن المندمجين بينهم، نتنصّت على أحاديث تتراوح بين التوجيه والاعتراف، بين الأمل والتأمّل الفلسفي الحذر.
جاؤوا من أماكن مختلفة، بمعتقدات متباينة، وأسباب متنوّعة للالتحاق بالجيش. فشاب أشقر في الـ16 يعترف بأنّه لم يُطلق النار سوى على الأرانب والسناجب قبل أن يتبع والده وشقيقه الأكبر إلى الجيش.
عندما يصلون معاً، واثقين بأنّ السعادة الوحيدة تكمن في الحياة الآخرة، تكون براءته مفجعة.
إذا كان لله وجود هنا، فهو في التفاصيل: قَدر القهوة يغلي فوق نار بُنِيَت بشق الأنفس؛ الثلج يكسو لحية حالكة السواد؛ عروق الذهب في حجر من الكوارتز.
يصرخ أحدهم بإعجاب: «هذه الأرض فيها كل شيء»، متجاوزاً الصراع ليرى وعد التربة والحياة البرية من حولهم. في بعض اللحظات، يكون التعبير غنائياً بشكل حاد، كما في مشهد جندي يُنظّف برفق رأس حصانه (من الوحل أو الدم، لا نعرف)، ثم يضغط جبهته على جبهة الحيوان في تواصل صامت.
السياسة غائبة تقريباً، ومعها كل العداوات المرتبطة بها. فعندما يعلن جندي من فرجينيا، التحق بالجيش تحدّياً لجيرانه الذين يملكون عبيداً، بهدوء أنّ «وضع الناس في سلاسل أمر خاطئ»، لا يعارضه أحد من رفاقه الذين جاؤوا فقط من أجل الراتب.
في المقابل، فإنّ إيقاع الفيلم السلس في بدايته وصور كارلوس ألفونسو كورال الحميمية، تخلق إحساساً بالسكينة يكاد يكون مهدّئاً، لدرجة أنّ اندلاع إطلاق النار يُشكّل صدمة حقيقية.
لفترة من الوقت، تسود الفوضى، يركض الرجال بجنون، من دون اتجاه واضح أو استراتيجية. هل يتّجهون نحو مطلقي النار غير المرئيِّين أم يفرّون منهم؟
نفترض أنّهم يتعرّضون إلى كمين من قناصة الكونفدرالية، أو ربما حتى من رعاة البقر الصامتين الذين داروا حولهم في يومٍ ما، لكنّ المُخرِج لا يوضح.
فالعبثية هي مقصده، كما هو الحال مع الرعب، المتمثل في الجندي المرتعش الذي يلتصق بجسده بتلة صغيرة، وقد تلاشت كفاءته وثقته التي ظهرت في مشاهد سابقة.
صُوّر الفيلم في مونتانا عام 2022 باستخدام ممثلين غير محترفين في الغالب (منهم رجال إطفاء محليّون وأعضاء في الحرس الوطني)، ويعتمد على حوارات مرتجلة ورفض قاطع لاختلاق التوتر أو تصنيف الشخصيات إلى طيّبين وأشرار.
الأسلوب انطباعي وتقشفي: أحياناً تكون المشاعل المشتعلة هي مصدر الضوء الوحيد، الأزرق الاتحادي هو اللون الوحيد، وعواء الذئاب هو الصوت الوحيد.
البرد والجوع والتَيه العام يمنحون الرجال، ونحن معهم، وقتاً للتفكير في رعب مهمّة تتطلّب منهم قتل أبناء وطنهم. وعندما يُعلّق أحدهم بأنّ العديد من معتقداته ثَبُت لاحقاً أنّها خاطئة، لا تملك حتى عائلة المعمدانيِّين إجابة.
في القسم الأخير من الفيلم، يسود الحزن الصامت بينما تُدفن الجثث وتبحث الفرقة عن طريق عبر الجبال.
مينيرفيني، الذي انتقل إلى نيويورك قبل أشهر فقط من هجمات 11 أيلول، لا يسعى إلى إلقاء محاضرات عن السلام. ومع ذلك، وبينما نعيش مرّة أخرى في أمّة منقسمة بشكل مؤلم، نجد أنفسنا نحتل مساحة سينمائية بين ماضي «الملعونون» وانقسام المستقبل القريب في فيلم أليكس غارلاند «الحرب الأهلية» (2024).
وفي تلك المساحة، يمكننا أن نرى بوضوح كم تقدّمنا، وكم لم نتعلم شيئاً.