اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الديار
نشر بتاريخ: ١٩ أيار ٢٠٢٥
تخيل بلداً يضع نفاياته تحت السجادة أو بالأحرى، يطمرها في أحشاء الأرض، وينفخ دخانها في صدر السماء. مشهد سريالي تختلط فيه رائحة الفساد برائحة القمامة، حيث يستحيل التخلص من الفضلات، مما يجعل اكوام الزبالة عبئاً يهدد الهواء والماء والتربة، وصولاً إلى صحة الإنسان نفسه.
فالواقع البيئي في لبنان لم يعد يحتمل المزيد من التجميل أو التسويف، إذ تحوّلت المطامر إلى جبال شاهقة من النفايات لا تتوقف عن النمو، في حين تُطرح المحارق كحل سحري، رغم ما تحمله من سموم كامنة وتهديدات مسرطنة تتسلل إلى الرئتين بلا استئذان.
لذا، في بلد تتخطى نسبة النفايات العضوية فيه 55%، تبدو فكرة الحرق أشبه بمن يحاول إشعال النار في الماء. هذه المواد المشبعة بالرطوبة لا تحترق بسهولة، بل تحتاج إلى 'وقود' إضافي من البلاستيك والمازوت، ما يجعل كلفة الحرق خيالية بيئياً ومالياً. وبين مكبات تغصّ حتى الاختناق، ومحارق تنفث الرماد السام والـ 'ديوكسين'، يصبح السؤال الجوهري: هل نتجه فعلاً نحو حلول مستدامة؟ أم نواصل الدوران في حلقة مفرغة من الترحيل والطمر والحرق؟
في جميع الأحوال، إنها معادلة فاشلة عنوانها الدائم: 'البيئة آخر الأولويات'، في وقتٍ بات فيه المواطن وقوداً إضافياً في محرقة سوء الإدارة وغبار السياسات العشوائية.
أمام تفاقم أزمة النفايات في لبنان، وبلوغ مطمري الجديدة وبرج حمود حدّهما الأقصى من الاستيعاب، ويضاف اليهما مطمر 'الكوستا برافا'، تُطرح تساؤلات ملحّة: إلى أين يتجه هذا القطاع، في ظل غياب استراتيجية واضحة ومستدامة؟ هل سنشهد توسيعاً للمطامر الحالية؟ أم أن هناك توجهاً نحو حلول أكثر تطوراً تحترم صحة الإنسان والبيئة؟ وكيف سيتم التعامل مع التراكم اليومي للنفايات، في ظل هذه المعطيات الضاغطة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، تحدثنا إلى جهة متخصصة في هذا الملف، حيث استعرضت واقع إدارة النفايات الصلبة في لبنان، وسلّطت الضوء على التحديات البيئية والتقنية التي تواجه هذا القطاع، إضافة إلى المساعي القائمة لوضع استراتيجية متكاملة تجمع بين التشريع والتنفيذ.
وفي هذا السياق، تقول أستاذة الكيمياء البيئية في الجامعة الأميركية في بيروت النائبة الدكتورة نجاة صليبا لـ 'الديار': 'أولاً تشكل الكمية الكبرى من نفاياتنا نسبة تفوق 55% من النفايات العضوية'. ماذا يعني 'عضوي'؟ توضح: 'أي تتكون من الخضر والفواكه والطعام المطبوخ، وهذه المواد مشبعة بالمياه. لذلك، إذا وضعناها في محرقة لا تحترق، وحتى تحترق يجب أن نضيف عليها البلاستيك والكرتون، بالإضافة إلى مواد مشتعلة مثل المازوت والبنزين، فيصبح حينئذ، إلى جانب كونها ماء، الدولة ستتكلف ثمن المازوت والبنزين أكثر من وضعها في المحرقة. وبالتالي، تكلفة هذه الطريقة في التخلص من الفضلات، هي أغلى طريقة يمكن أن تتبعها الدولة لإدارة النفايات الصلبة التي لديها'.
طرح غير سليم!
وتضيف: 'نفاياتنا لا يمكن مقارنتها بأوروبا، لأننا نطبخ في المنزل ونشتري الخضراوات لاستخدامها، ولا نعتمد بشكل كامل على الوجبات الجاهزة او 'الدليفري'، وبالتالي فإن القمامة ليست عبارة عن بلاستيك فقط او الكرتون الذي نستعمله. من هنا، فإن المقارنة مع أوروبا هي رؤية مغلوطة 100%'.
تحديات معالجة الرماد السام
وأهمية تقنيات الحرق المتقدمة
وتتابع: 'أما الأمر الثاني فهو الرماد الناتج من الحرق، والذي يحتوي على مواد سامة تتطلب معالجة خاصة وآمنة، غير أنها مكلفة جداً. وفي غياب هذه المعالجة، يُصار إلى طمر هذا الرماد، ما يجعله أكثر ضرراً، لأن الطمر العشوائي لهذه المواد المؤذية، أخطر بكثير من طمر النفايات العضوية أو غير القابلة لإعادة التدوير، مما يزيد الوضع تعقيداً. هذا فضلاً عن الانبعاثات السامة التي تطلق في الجو، إذ يؤدي حرق البلاستيك إلى انبعاث مادة الديوكسين، وهي مادة مهلكة جداً'.
وتضيف: 'إذا كانت الدولة تنوي اللجوء إلى الحرق، فعليها أن تجهّز المحارق بفلاتر متطورة وأجهزة لقياس الحرارة، بغية التأكد من أن الحرق يتم بدرجات حرارة مرتفعة، لتفادي انبعاث الديوكسين. أما في حال غابت الصيانة الدورية والمراقبة الدقيقة، فإن حياة الناس ستكون في خطر داهم'.
وتعود لتوضح: 'ما أحاول قوله هو إن من يتحدث عن سبب وجود المحارق في أوروبا وعدم وجودها هنا، فهذا المستفسر لا يكون دارسا لكل هذه المعطيات الاقتصادية والبيئية، ويجهل نوعية النفايات الموجودة لدينا. كما انه يغفل في حديثه ان هذا النموذج لا يمكن تطبيقه في لبنان. ويبقى السؤال الأهم في هذا المجال: إذا تم اعتماد الحرق، فأين سيتم التخلص من الرماد المسرطن'.
فصل المهام بين السلطتين
خطوة أساسية باتجاه الحل
وتشرح: 'التقيت بفريق عمل مع وزيرة البيئة اللبنانية الدكتورة تمارا الزين وأثرنا موضوع النفايات، وتحدثنا عن اهمية السلطة التنفيذية ممثلة بالوزيرة، في اعادة النظر بالاستراتيجية التي اقرها مجلس الوزراء السابق. ونحن في الوقت نفسه، نعمل بالتوازي على اعادة النظر في قانون النفايات، لان الطريقة المعتمدة سابقا اي قانون 80/2018، استند في احدى فقراته الى تَبنّي الاستراتيجية الصادرة عن مجلس الوزراء وهذا امر معيب قانوناً، اذ لا يجوز ان يكون هناك تداخل بين الاستراتيجية التي تعد من مهام السلطة التنفيذية، وبين وضع القانون الذي ينبغي ان يؤسس على مبادئ عامة وثابتة، لا ان يرتبط باستراتيجية متغيرة. وهذا ما حصل بالفعل، وهو ما كنا قد اتفقنا عليه، بأن يكون هناك تعاون بين السلطتين، يعقبه اجتماع نطرح فيه بدورنا التعديلات على القانون، وفي الوقت عينه تقوم الوزيرة باطلاعنا على الاستراتيجية التي تفكر في اعتمادها'.
وتشير إلى أن 'الخطة لم تتضح بعد، وفي الوقت نفسه ما زلنا نعمل على القانون، وكل ذلك في إطار السعي الجاد أولاً لإصدار قانون حديث، وثانياً لوضع استراتيجية موحدة تنطبق على جميع البلديات والاتحادات. لذلك قبل إقرار هذين الأمرين، لا يمكن الحديث عن أي شأن يتعلق بالنفايات، سواء أكان مدفناً ام غيره'.
برنامج متكامل لإدارة النفايات
يواكب الاستراتيجية القانونية
وتكشف لـ 'الديار' في ختام حديثها أنه 'سيتم العمل على رفع الجبل في برج حمود والجديدة، لأنهما وصلا إلى الحد الأقصى من القدرة الاستيعابية للنفايات، ولم يعد بالإمكان تكديس المزيد من القمامة. وهنا قد نواجه مشكلة، لكن هناك مساعٍ حثيثة لوضع برنامج متكامل، يتمشى بالتوازي مع الاستراتيجية المتعلقة بإدارة النفايات ومع قانون النفايات، بحيث يكمل أحدهما الآخر، لضمان تنظيم منسق لهذا القطاع. وهذا ما نعمل عليه، وزيارتي إلى وزيرة البيئة لم يمضِ عليها وقت طويل، لأقول إن هناك معطيات جديدة طرأت في هذا الملف'.