اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
مع حلول ذكرى الاستقلال من كلّ عام، تكثر الهنات والندبيات والتفجّع المفتعل. سخرية من الوطن، من العلم، من معاني الاستقلال وفكرة الدولة. ثمّة من يجد ذلك تعبيرًا عن نقص في المشاعر الوطنية مصدره غياب الهوية اللبنانية الجامعة، والسؤال الذي لم يبرح يفرض نفسه: أي لبنان نريد؟
هذا السؤال اختصره المؤرّخ كمال صليبي في عبارة دقيقة اختارها عنوانًا لكتابه عن الكيان اللبناني بيت بمنازل كثيرة. لكن في قلب هذا البيت ثمة مقاسم مشتركة، لعلّ أبرزها صحن الدار وليس خلاءه. والصراع كان دائمًا ليس على الخصوصيات، بل على ذاك المشترك، وتغوّل تلك الخصوصيات عليه. وهنا بالضبط تبرز إشكالية دور الدولة.
منذ الاستقلال اعتمدت الدولة مبدأ الحياد المبالغ فيه إزاء المجتمع، والتنوّع اللبناني، حيث انسحبت من الفضاء العام، وتحوّلت من ضابط إيقاع اللعبة إلى فاعل ضمن مجموعة فاعلين، داخليين وخارجيين، ما أفضى إلى اختلال مستدام للتوازنات على كافة الصعد، ونمو الهويات الفئوية والخصوصيّات، ولا سيّما تلك العابرة للتراب الوطني. حتى حكاية الاستقلال أتت باهتة ومقتضبة، فأفسحت المجال أمام السرديّات الفرعية كي تملأ هذا الفراغ حسب انحيازاتها العاطفية والأيديولوجية.
هذا العام، أراد رئيس الجمهورية توظيف ذكرى الاستقلال لتثبيت جدية الدولة في استعادة القرار الاستراتيجي، والانتقال من هامش اللعبة إلى مركزها. غير أن مستوى التفاعل السياسي والشعبي مع خطابه، وحضوره الشخصي في قلب الجنوب، وأكثر منهما المبادرة التي أطلقها، كلّها عوامل أتت باهتة على وقع تأثير إرث ثقيل من الحياد المفرط للدولة. ربما لم ترقَ المبادرة إلى مستوى الضغوطات والتحدّيات، إلّا أنه لا بدّ من مقاربة المسألة من منظور أوسع، إذْ لم تصدر مواقف جدية من الكتل السياسية والقوى الاجتماعية والدينية تدعم وتغطّي هذا المسار الناشئ. الأمر الذي يصعّب إمكانية المضيّ أبعد في ظلّ دقة الظروف وحساسيّتها.
في مبادرته، رمى الرئيس جوزاف عون ورقة جنوب الليطاني على الطاولة، مؤكّدًا من خلال رمزية حضوره الجسدي، والعمل المستمرّ للجيش، أنه صار بالكامل في عهدة الدولة بلا أي شريك، غامزًا من قناة أشباح 7 أكتوبر التي تتصدّر مخيال الأمن الوقائي الإسرائيلي. وأرفقها بمسارات متزامنة ترتكز على مظلة عربية ودولية رقابية على تطهير جنوب الليطاني، وراعية وضامنة لمفاوضات ترك فيها مساحة غامضة لأن تكون مباشرة وبتمثيل سياسي، وداعمة للجيش في استكمال حصرية السلاح على كل الجغرافيا اللبنانية.
كانت واشنطن المخاطب الأساسي إلّا أن ردّها كان عاصفًا، حيث منحت الضوء لإسرائيل لاغتيال قائد أركان الحزب هيثم الطبطبائي في الضاحية الجنوبية، والذي يحمل رمزية مكثفة في ظلّ هويته الإيرانية. هذا الدور الأميركي يمكن الوقوف عليه في سيل التسريبات والإحاطات الإعلامية المتدرّجة، وإشارة نتنياهو الخبيثة إلى المبلغ المرصود لرأس الطبطبائي. فإذا كانت إسرائيل تولي أهميّة كبرى للمنطقة العازلة، وتستثمر غطاء حرية الحركة لممارسة ما تسميه بسياسة جز العشب، فإن أميركا تريد تفكيك العقل الأمني والعسكري لـ الحزب.
عمليًا، تطرح واشنطن ورقة بيروت على الطاولة، وتقول إن الأساس في تطهير العاصمة ومركز القرار السياسي والاستراتيجي من نفوذ إيران و حزبها. والأخير ليس بندقية أو صاروخًا، بل منظومة متشابكة تقودها عقول تتقن تدوير النفوذ، ومنح الملالي تلابيب القرار، فيما تعتبر طهران أنه لم يأتِ زمن التفاوض الجديّ على ورقة الحزب. لذا تضغط عليه وعلى الرئيس نبيه بري لعدم تقديم تنازلات، وترتكز استراتيجيتها على تحمل الضربات، والمراهنة على عامل الوقت لفتح ثغرة في جدار الشروط الأميركية الصلبة. وبالتالي لا غضاضة من التضحية بقيادات، وبدماء الحاضنة الشعبية في سبيل استمرارية النفوذ.
في ظلّ هذه الفجوة، وبالتزامن مع دخول أطراف عربية على خط الوساطة لتجنيب بيروت جولة حرب جديدة، حيث سيشهد لبنان زيارات لوزراء خارجية دول عربية، ثمة حاجة لمواقف داخلية تدعم استعادة الدولة زمام المبادرة، وتطوير المبادرة الرئاسية نحو التفاوض المباشر، وطرح بيروت الكبرى بلا حزب اللّه كإطار للتفاوض لإقناع أميركا وليس إسرائيل.
ثمة فرصة حقيقية لدفع الدولة نحو لعب دور رأس الحربة، خصوصًا في المفاصل الحساسة، والخروج من وضعية الانتظار التي كلفتنا أثمانًا كارثية، وأرست صورة نمطية عن الاستقلال كجثة تدفن سنويًا باحتفال جنائزي. لكن رأس الحربة هذا يحتاج لصناع لعب وأجنحة يمدّونه بالكرات لتسجيل الأهداف، غير ذلك يصبح محاصرًا من مدافعين يمتهنون الضرب تحت الحزام.











































































