اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
د. هنا وليد عرابي
يشكّل الاقتصاد الموازي أحد أبرز التحديات البنيوية التي تواجه الاقتصاد اللبناني، لا سيما في ظل الإنهيار المالي والمصرفي الذي تفاقم منذ عام 2019. فقد أدّى فقدان الثقة بالنظام المصرفي إلى توسّع غير مسبوق في استخدام النقد الكاش، بحيث بات يشكّل العمود الفقري للتعاملات اليومية بين الأفراد والمؤسسات. هذا التحوّل نحو الاقتصاد النقدي ترافق مع تعمّق الفجوة المالية للدولة، أي الفرق بين الإيرادات الفعلية وما كان يجب تحصيله لو جرى إدماج الأنشطة الاقتصادية كافة ضمن الإطار الرسمي. ومن هنا يبرز سؤال محوري: كيف يسهم الاعتماد المفرط على النقد الكاش في تعميق الفجوة المالية، وما انعكاساته على السياسة النقدية في لبنان؟
الفجوة المالية وعلاقتها بالنقد الكاش
تعكس الفجوة المالية ضعف قدرة الدولة على جمع الإيرادات العامة نتيجة التهرّب الضريبي والجمركي وتوسّع الأنشطة غير الرسمية. في المقابل، يمثل النقد الكاش وسيلة رئيسية لعمل الاقتصاد الموازي لأنه يتيح للفاعلين الاقتصاديين إخفاء حجم معاملاتهم الفعلية والتملّص من الرقابة المالية. في الحالة اللبنانية، أدّى انهيار المصارف وتقييد السحوبات إلى تحويل المجتمع بأسره نحو اقتصاد نقدي. إذ لم يعد الكاش مجرد وسيلة دفع، بل أصبح أداة لتخزين القيمة وتبادل السلع والخدمات وحتى تسوية الديون. هذا الواقع عمّق الفجوة المالية لأنه قلّص من إمكانية تتبع المعاملات وتقدير حجم النشاط الاقتصادي بدقة، وقوّض قدرة الدولة على فرض الضرائب بشكل عادل.
صعود الاقتصاد الموازي في لبنان بعد 2019
مع اندلاع الأزمة المالية، شهد لبنان تحوّلات عميقة في هيكلية الاقتصاد. فقد خسرت الودائع المصرفية قيمتها بشكل دراماتيكي، واتجهت المؤسسات والأفراد نحو الاقتصاد الموازي الذي بات يوفر بيئة أكثر مرونة في ظل القيود المصرفية. ووفق البنك الدولي (2022)، تجاوز حجم الاقتصاد الموازي 50% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين هبطت الإيرادات الضريبية إلى أقل من 7% من الناتج، مقارنةً بمعدل يتراوح بين 15 و20% في الاقتصادات النامية. كذلك، تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن 90% من المعاملات الداخلية باتت تتم نقداً، ما يعني عملياً انقطاع العلاقة بين النشاط الاقتصادي الحقيقي وبين النظام المصرفي الرسمي. هذه المؤشرات تكشف أن الاقتصاد اللبناني بات يعيش ازدواجية خطيرة بين قطاع رسمي يزداد ضعفاً، واقتصاد موازٍ يترسخ يوماً بعد يوم على قاعدة النقد الكاش.
إنعكاسات النقد الكاش على السياسة النقدية
لقد أحدث الاعتماد المفرط على النقد الكاش تحوّلات جذرية في السياسة النقدية اللبنانية. أولاً، فَقدَ مصرف لبنان القدرة على قياس الكتلة النقدية بدقّة، إذ إن معظم الأموال المتداولة أصبحت خارج المصارف، ما أضعف فعالية أدواته التقليدية في ضبط السيولة. ثانياً، ارتفعت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية (M1) بأكثر من 400% بين 2019 و2022، وهو ما انعكس مباشرة على معدلات التضخم التي تجاوزت 200% في بعض الفترات. ثالثاً، عززت سيولة الكاش تعدد أسعار الصرف، إذ باتت السوق السوداء هي المرجع الأساسي لتحديد قيمة الليرة مقابل الدولار. رابعاً، تراجعت قدرة المصرف المركزي على استخدام أسعار الفائدة أو الاحتياطيات الإلزامية كأدوات للتأثير في الاقتصاد، لأن هذه الآليات تفترض وجود ودائع مصرفية وحركة أموال ضمن النظام الرسمي. بكلمة أخرى، أدى انتشار الكاش إلى تعطيل السياسة النقدية وتحويلها إلى مجرد إجراءات ظرفية تفتقر إلى الفعالية.
الفجوة المالية والنقد الكاش كحلقة مفرغة
إن العلاقة بين النقد الكاش والفجوة المالية في لبنان تتسم بالطابع الدائري. فكلما توسّع الاقتصاد الموازي، زاد الاعتماد على الكاش. وكلما ارتفع التعامل بالكاش، اتسعت الفجوة المالية نتيجة ضعف التحصيل الضريبي. ومع اتساع الفجوة، تضطر الدولة إلى اللجوء لسياسات بديلة مثل زيادة الضرائب على القطاع النظامي أو طباعة المزيد من النقد لتمويل العجز، ما يؤدي إلى تضخم إضافي يدفع الأفراد إلى زيادة الاعتماد على الكاش لحماية قدرتهم الشرائية. وهكذا تتكرس حلقة مفرغة تجعل من المستحيل تقريباً استعادة الإستقرار النقدي والمالي من دون تدخّل جذري.
الأبعاد الاجتماعية والسياسية
لا تقتصر تداعيات النقد الكاش على الجانب المالي فقط، بل تمتد إلى أبعاد اجتماعية وسياسية. فمن الناحية الاجتماعية، يفاقم الاعتماد على الكاش انعدام العدالة الضريبية، إذ يتحمل الموظفون والعاملون في القطاع النظامي عبء الضرائب، بينما ينجو العاملون في الاقتصاد الموازي من المساهمة في تمويل الخدمات العامة. ومن الناحية السياسية، يغذّي النقد الكاش شبكات تهريب السلع والمحروقات عبر الحدود، مُحرماً الخزينة من إيرادات جمركية ضخمة، ومكرّساً منظومات نفوذ موازية للدولة. كما يعكس انتشار الكاش فقدان الثقة بالعقد الاجتماعي، حيث يفضّل المواطنون الاعتماد على آليات موازية خارج الإطار الرسمي، ما يضعف الشرعية المالية والسياسية للدولة.
سيناريوهات محتملة للبنان
يقف لبنان اليوم أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة. السيناريو الأول هو الإستمرار بالوضع الراهن، بما يعنيه من تضخم متصاعد، فقدان السيطرة النقدية، وتوسّع غير محدود للاقتصاد الموازي. السيناريو الثاني يقوم على إصلاح تدريجي من خلال إدخال الدفع الإلكتروني في المؤسسات العامة، ومنح حوافز للمؤسسات الصغيرة للانتقال إلى القطاع الرسمي، وتعزيز الرقابة الجمركية. أما السيناريو الثالث والأكثر طموحاً فهو الإصلاح الجذري عبر إعادة هيكلة شاملة للقطاع المصرفي وربط السياسة النقدية بخطة إصلاح ضريبية وإدارية متكاملة تستعيد الثقة وتقلص الاعتماد على النقد الكاش.
بينما أصبح النقد الكاش في لبنان أكثر من مجرد وسيلة للدفع، بل تحول إلى انعكاس حي لانهيار النظام المصرفي وتوسع الإقتصاد الموازي. هذا الواقع أدى إلى تعميق الفجوة المالية وأفقد السياسة النقدية فعاليتها، تاركاً الدولة أمام حلقة مفرغة من العجز والتضخم والتهرب. إن كسر هذه الحلقة يستدعي استعادة الثقة بالقطاع المصرفي، إدماج الاقتصاد الموازي تدريجياً، وتبني سياسات رقمية وضريبية تقلّص من الاعتماد على النقد الكاش. ومن دون هذه الإصلاحات، ستبقى الفجوة المالية تتسع، فيما يواصل الاقتصاد الموازي إعادة تشكيل ملامح السياسة النقدية في لبنان على نحو يهدّد استقراره المالي والاجتماعي والسياسي.