ما وراء الكلام!

في جميع وسائل الإعلام والإعلان والاتصال والتواصل، وعلى لسان من انتدبوا أساسا للعناية بشؤون التفكير والكلام، أو على قراطيس «القرارات» الرسمية، نرصد عشرات من أفعال الرغبة والتمنّي والمدح والذمّ والتعجب والتخوين المتبادل. قلّما نقع على أي فعل يشير إلى أحد أعمال الإرادة الحرّة المسؤولة التي تجلّت محورا أساسياً في فكر كبار الفلاسفة أمثال الفيلسوف الألماني «كنت» في العصر الكلاسيكي. ومراحل تلك الإرادة اللازبة في الحياة العامة قبل الحياة الخاصة - وإن هي تداخلت عمليا - هي: التصور ثم التروّي ثم القرار فالتنفيذ. وهذا ما أوضحته بعيدا عما هو طويل مملّ أو قصير مُخل، في أول كتاب لي صدر عن «المنشورات العربية» في باريس (١٩٧٢) بعنوان «الإرادة».

الثابت ان «الفعل» يتميّز خصوصا بانه عمل. والفعل عموما يحتاج إلى فاعل!...

يتكلم أرسطو وابن سينا وتوما الأكويني على ثلاثة نفوس هي: النفس النباتية والنفس الحيوانية والنفس الإنسانية! وثبت ان النبات يساهم في العمل الإرادي. وهو يحشد الوقود للحيوان وتاليا للإنسان الذي يخوّله ذكاؤه وإرادته أن يتحكم في الحيوان. ولدى الحيوان هذا رغبة، ولو غامضة، في العيش...

الإنسان إذا ينطوي بدرجات على النفسين الأولى والثانية، ويتميّز بالنفس الخاصة به التي يجسّدها العقل (الفاعل!)...

وان أهم ما ينتظره «صغارنا» قبل «كبارنا» من المسؤولين الغيارى ليس بعضهم من بعض وإنما الغيارى على الناس، أن يبذلوا ذات يوم جهودا محسوسة ملموسة وينجزوا ليس ضرورة أفعالا عظيمة أرى ان لا قبل لهم بها، بل أفعالا ترى بأم العين ولو تجلّت متواضعة وآنية وإنما على جانب من الجدّة والجديّة والنزاهة والاستشراف. هذا، ما لم يشأ عدد منهم، وقد توارثوا الحكم الذي بان انه ليس حكمهم، بالتعكيز على هذه الطائفة أو تلك وامتداداتها الخارجية، أن تضيع أسماؤهم ويجرفهم النسيان بعد أن بدوا، في أحسن أحوالهم، مجرد ظاهرة صوتية متهافتة حصرا على شؤون الأنا الفردي أو الجماعي.

ليستفد شعبنا من حقيقة ظاهرة التعدد الحيوي أو البيولوجي الذي ينسحب على الإنسان. الهدهد يسهّل عمل الفلاحين لأنه يخلصهم من الحشرات والديدان، والهر يهرّب الفئران ويأكلها فيرتاح الناس منها. عندما يشاهد الناس الهدهد يفرحون بشكله الجميل، والهر أيضا شكله جميل ويلاعب الأولاد... كل منهما على جانب من الأهمية، لأنه ينفع الانسان بطريقة ما. أليس «خير الناس أنفعهم للناس»؟ فأين المنافسة البريئة إنما بالأعمال، في حياتنا الشخصية والعامة؟

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه