اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٩ نيسان ٢٠٢٥
حين نتحدث عن الفن التشكيلي في العالم العربي، لا يمكن أن تمرّ أفكارنا مروراً عابراً على اسم خالد حوراني، ذلك الفنان الذي استطاع أن يخلّد في لوحاته رؤيته العميقة لمجتمعه والإنسانية ككل. في أعماله، لا تقتصر الرؤية الفنية على الألوان والخطوط، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهي دعوة للتفكير في اللحظات الاجتماعية والإنسانية التي تُترجم إلى صراع جمال وجمال في الصراع. فهل البحث عن الجمال في المسكوت عنه في الفن التشكيلي هي قضية العصر إنسانيا وجماليا؟
يُعدّ حوراني من أبرز الفنانين التشكيليين الذين نجحوا في استثمار الأسلوب التعبيري في الرسم لتسليط الضوء على قضايا اجتماعية تشغل الوعي الجمعي العربي. في أعماله، يلامس الوجوه الإنسانية بمقدرة فنية فريدة تخلّص من المظاهر السطحية، إلى أن تُظهر لنا أعمق تعبيرات الروح. وإذا نظرنا إلى لوحاته، نجد أنها لا تتوقف عند الشكل الخارجي للبشر، بل تعكس الصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد داخل مجتمعاتهم، خصوصاً أولئك الذين يعانون من ضغوطات الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
إن لوحات حوراني، خاصة تلك التي تجسّد الشخصيات الإنسانية المكسورة والمهمّشة، تترك انطباعاً عميقاً في الروح، وكأنما هي نداءٌ للإنسان ليواجه ذاته الحقيقية. ليس ثمة احتفال بالزخرف أو جماليات سطحية في أعماله؛ بل هو سعي دائم إلى التعبير عن الذات البشرية في أشدّ حالات المعاناة والتمزّق. فهل من رمزية في كل تفصيلة من تفاصيل ما نراه في لوحاته مستوحى من ضمير الوعي الجمعي؟
من خلال الأسلوب الرمزي تعبيريا الذي يميّز أعماله، يمزج حوراني بين التعبير الواقعي والجمالي، فيخلق أعمالاً تجسّد الواقع دون الوقوع في فخ التوثيق المادي البسيط. الرمزية في لوحاته تتجاوز كونها مجرد لون أو شكل، بل إنها تعبير عن معاناة داخلية تواجهها الشخصيات التي يرسمها. يبرز هذا المعنى في تلك الوجوه التي تنظر إلينا بتعابير ثابتة، مليئة بالصمت الذي يُعبّر عن كل ما لا يُقال. وفي لوحة من لوحاته، على سبيل المثال، نرى شخصيات تتكئ على الزمن، تراقب الحياة من زاوية تقشّف الأمل. الحزن في الوجوه يتجسّد في خطوط عميقة، كأنها ترفض أن تكون مجرد مادة فنية، بل هي صرخة تطالب بإعادة النظر في الحياة الاجتماعية والسياسية. فماذا عن الجمال في معنى النزاع الاجتماعي؟ وماذا عن لوحة الحمّال ومغزاها البصري؟
لا يمكن الحديث عن أعمال حوراني دون ربطها بنقده الاجتماعي الحاد. لوحاته ليست مجرد مساحات من الألوان، بل هي محاكمة اجتماعية للفئات المستضعفة والمهمّشة في المجتمع. إذ يُعد الفن بالنسبة لحوراني أداة نقدية، يُوظّفها لطرح الأسئلة الكبيرة التي يتجنّب المجتمع الحديث عنها. القلق الاجتماعي، الهشاشة الاقتصادية، والعزلة الإنسانية، هي ثيمات تتكرر في العديد من أعماله، وكأنها تعبير عن القلق العام الذي يعيشه المواطن العربي في أوقات التغيّر والتحوّلات الاجتماعية. يمكننا ملاحظة أن حوراني لا يُغفل الواقعية في تصوير تفاصيل الحياة اليومية، بل يعمّق المعضلة الاجتماعية بتركيزٍ فني على تلك التفاصيل التي غالباً ما تُعتبر هامشية في المشهد العام. فهل الرمزية الجمالية والتوازن بين الأسلوبين الواقعي والتعبيري وحتى غيره المضمخ برسالة غامضة وتحتاج لقراءات متعددة؟
مما يميّز أسلوب حوراني هو مزجه بين الأسلوب التعبيري والواقعي. في بعض أعماله، نجد ملامح الوجوه مشوّهة أو مشبعة بالرمزية، بينما في أعمال أخرى، يعمد إلى إبراز التفاصيل الواقعية بتركيز لافت. هذه الازدواجية بين التعبير والواقعية، تمنح أعماله بُعداً فلسفياً، حيث يُظهر لنا الجمال في أبسط التفاصيل، حتى وإن كانت تلك التفاصيل تعكس أكثر اللحظات المظلمة في الحياة.
حوراني لا يكتفي بتقديم الفن التشكيلي كوسيلة للتسلية البصرية، بل يسعى لأن يكون الفن أداة تمرّد على الواقع، وتوثيق لظروف البشر في أوضاعهم الأكثر قسوة. هذا الأسلوب يمنح أعماله طابعاً مميّزاً في الساحة الفنية، حيث تُترجم الأشكال والألوان بشكلٍ يتجاوز الزمان والمكان ليخاطب الروح البشرية في كل مكان.
من خلال تتبّع مسيرة خالد حوراني، نلاحظ تأثيره الكبير على الفنانين الجدد في العالم العربي. إذ استطاع أن يطرح مواضيع كانت تقتصر على الأدب والسياسة، ليُدرجها في سياق بصري قادر على الوصول إلى أكبر شريحة من الجمهور. لوحاته لا تقتصر على تقديم رسالة جمالية فقط، بل تحمل رسالة اجتماعية، حيث تكون الألوان والظلال بمثابة أدوات لنقل معاناة الفئات المهمّشة.
من خلال أعماله، أضاف حوراني عنصراً جديداً للفن العربي الحديث، فأصبح الفن ليس مجرد مجالٍ للتعبير الجمالي بل أداةً فاعلة لفهم وتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي. لذلك، يُعدُّ حوراني واحداً من أهم الأسماء التي ساهمت في تعزيز مفهوم «الفن من أجل التغيير الاجتماعي» في العالم العربي. فهل يحاول التلميح لإعادة النظر في الإنسان والمجتمع وما يحدث إنسانيا بشكل عام؟
إن فن خالد حوراني لا يقف عند حدود الرسم فحسب، بل يتجاوز ذلك ليصبح دعوة جمالية وفكرية لإعادة النظر في الإنسان والمجتمع. في كل خط، وكل لون، يتجسّد السؤال عن دور الفن في مواجهة التحديات الاجتماعية والإنسانية. خالد حوراني ليس مجرد فنان تشكيلي، بل هو شاعر بصري يحمل هموم مجتمعه على أكتافه، ويعرض لنا في لوحاته الواقع بصورته الأكثر صدقاً وقسوة.