اخبار لبنان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٩ نيسان ٢٠٢٥
استعادت نبضها التجاري مع افتتاح 80 محلاً و50 علامة تجارية عالمية في الطريق وخبراء يشيرون إلى مسار العهد الجديد
في لبنان، كل ما يبنى يبقى مهدداً بالهدم، وكل ما ينهض سرعان ما تعصف به أزمة أو انفجار أو فراغ سياسي. وسط هذا التقلب تبقى بيروت مرآة البلاد وساحة اختبار دائم بين الانهيار والإرادة. في الأعوام الأخيرة تحول وسط العاصمة، الذي كان رمزاً للانفتاح والحركة التجارية والسياحية، إلى مشهد باهت تراجع فيه الزوار وأقفلت المتاجر وخفتت الأنوار.
لكن عام 2025 حمل معه مؤشرات مختلفة. عادت الحياة تدريجاً إلى أسواق بيروت مع افتتاح عشرات المتاجر والمطاعم في محاولة لاستعادة ما ضاع. ليست نهضة كاملة ولكنها إشارة، ليست عودة إلى ما كانت عليه المدينة ولكنها بداية سؤال جديد: هل يمكن لبيروت أن تستعيد دورها من دون استقرار فعلي، وهل يكفي فتح المحال إذا أغلقت السياسة والاقتصاد والأمن؟
القصة الكاملة لقلب بيروت
يعيد نقولا شماس رئيس جمعية تجار بيروت، سرد قصة الصعود والانحدار التي عاشها الوسط التجاري لبيروت، من أيام مجده قبل الحرب الأهلية، إلى لحظة تحوله إلى مدينة أشباح، وصولاً إلى بدايات النهوض الحالية. يقول شماس، إن 'بيروت قبل عام 1975 كانت تمثل أكثر من 75 في المئة من النشاط الاقتصادي في لبنان، وكانت الحركة الاقتصادية فيها مركزة في الوسط التجاري تحديداً'، مستذكراً تلك الحقبة 'كنت صغيراً آنذاك، لكنني أذكر جيداً كيف كانت الحركة في الأسواق نابضة، كما لو أنها خلية نحل. كانت هناك أسواق النورية والطويلة وسوق الذهب وسوق الصياغين، وكانت تستقطب اللبنانيين من جميع المناطق، إضافة إلى الإخوة العرب الذين كانوا يترددون بكثافة على هذا المكان'.
ويتابع شماس لـ'اندبندنت عربية'، أن 'هذه الحيوية لم تكن محط ترحيب لدى الجميع، بل على العكس، فقد بدا أن الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، التي استمرت 15 عاماً، استهدفت هذا القلب الاقتصادي تحديداً، وكأن هناك قراراً ضمنياً بمعاقبته لأنه كان بمثابة مساحة جامعة للبنانيين. ومن رحم هذا الدمار، ولدت الحاجة إلى إعادة الإعمار'.
بعد أعوام من الشلل، جاء الرئيس رفيق الحريري بمشروع طموح لإعادة بناء وسط المدينة عبر تأسيس شركة 'سوليدير'، التي أوكلت إليها مهمة تنمية وإعادة إعمار المنطقة. يرى شماس أن 'هذا المشروع، رغم ما شابه من ثغرات ومظالم في بعض الجوانب، فإنه كان خطوة ضرورية'، لافتاً إلى أنه 'في عام 1994 أعيد فتح الوسط التجاري أمام النشاط الاقتصادي من جديد، وبدأت المحال والمطاعم والفنادق في العودة تدريجاً حتى بلغنا مرحلة نهوض حقيقية'.
استمر هذا النهوض حتى عام 2005، وعندما اغتيل الرئيس الحريري بدأ المسار الانحداري مجدداً. يوضح شماس أن 'إعادة الإعمار ارتبطت في أذهان الناس باسم الحريري، ومن ثم فإن ضرب هذه المنطقة أصبح نوعاً من استهداف رمزي للرجل وإنجازه. وقد جاء الاعتصام الشهير بين عامي 2006 و2008، الذي دام 18 شهراً ليجهز على الحركة الاقتصادية في الوسط التجاري، ويدخلها في نفق طويل من الركود'.
لكنه يلفت إلى أن 'عامي 2009 و2010 شهدا انتعاشاً لافتاً، حيث استطاع القطاع المصرفي اللبناني جذب عشرات مليارات الدولارات، في وقت كانت فيه دول الخليج تعاني آثار الأزمة العقارية العالمية. وكان السواح الخليجيون من أبرز رواد الوسط التجاري، فهم وإن امتلكوا أرقى المراكز التجارية في بلدانهم، كانوا يفضلون التسوق في الشارع، وهو ما تميزت به بيروت'.
إلا أن هذا الانتعاش لم يدم طويلاً. فمع اندلاع الحرب السورية عام 2011، فرض حظر سفر غير معلن على مواطني دول الخليج إلى لبنان نتيجة التدهور الأمني والاصطفافات السياسية الحادة، مما أدى إلى انقطاع شبه تام للمصدر الخارجي الذي كان يغذي الحركة التجارية في بيروت. ومع الوقت بدأت المؤسسات والمحال تغلق أبوابها واحدة تلو الأخرى، 'بدأ الوسط يموت رويداً رويداً'، يقول شماس، 'المربعات الأمنية حول الإسكوا وشارع ويغان أضعفت الحركة، وعندما تغيب الأقدام عن الأسواق تقفل المؤسسات. وحين تقفل المؤسسات يقل الزوار فتبدأ الحلقة المفرغة'.
ثم جاءت الثورة اللبنانية في 2019 لتعمق هذا الانهيار. المتسوقون ابتعدوا، المستثمرون انسحبوا، والوسط التجاري أصبح أكثر عزلة من أي وقت مضى. غير أن الضربة القاضية، بحسب شماس، كانت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، حين وقع انفجار مرفأ بيروت. يقول شماس بأسى 'شارعا فوش وألمبي اللذان كانا يوماً ينبضان بالحياة أصبحا مقفرين. من بين سبعة محال كان ستة منها مغلقة. وتحولت بيروت فعلاً إلى مدينة أشباح'.
ورغم الظلمة لم تغب بوادر الأمل. يشير شماس إلى أن 'القطاعين التجاري والسياحي أبديا قدراً هائلاً من الصمود. أصحاب المحال والمطاعم والمقاهي، رغم غياب أي دعم مصرفي، أعادوا فتح مؤسساتهم من مالهم الخاص، مخاطرين بما تبقى من رأسمالهم ليعيدوا بعضاً من الحركة إلى السوق. وشيئاً فشيئاً بدأت الحياة تدب من جديد في شرايين بيروت إلى أن وقعت الحرب الإسرائيلية الشاملة على لبنان مما أعاد التراجع مجدداً. فقد نزح كثر إلى بيروت، وبخاصة إلى محيط الوسط التجاري، مما أثر في وتيرة التعافي، وتسبب في موجة جديدة من الانكماش'.
اليوم، ومع دخول عام 2025، يعبر شماس عن مزيج من التفاؤل المشروط والحذر. فقد عادت أسواق بيروت إلى الحياة، حيث 'افتتح أكثر من 70 إلى 80 محلاً تجارياً، وهناك 50 علامة تجارية عالمية إضافية في طريقها للانضمام. كما استعادت المطاعم نشاطها، وتستعد ثلاثة فنادق مركزية لإعادة افتتاح أبوابها خلال العام الحالي'، معتبراً أن 'كل ذلك يبقى هشاً ما لم يتحقق الاستقرار الأمني والسياسي والمالي'. ومضيفاً 'لبنان لم يستقر بعد، لا على حدوده الجنوبية، ولا على حدوده الشرقية والشمالية. نحتاج إلى الحد الأدنى من التفاهم السياسي، ونحتاج أيضاً إلى انتظام مالي حقيقي يعيد الثقة إلى السوق'.
تقاطع التجارة مع الدم
يشير الباحث في الشؤون المالية والاقتصادية البروفيسور مارون خاطر، إلى أن 'قرار عودة العلامات التجارية العالمية إلى أسواق بيروت هو خطوة تجارية استباقية تتزامن مع التغييرات الجيوسياسية في المنطقة، ومع تبدل المزاج العالمي والعربي تجاه لبنان كنتيجة مباشرة لها'، موضحاً أن هذه الخطوة 'لا ترتكز إلى مؤشرات اقتصادية أو قطاعية، بل إلى الإيجابية على المستوى السياسي، التي ترجمت عملياً عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتعيين حكومة، وعودة المؤسسات للعمل'.
ويتابع خاطر أن 'عدداً من العوامل يسهم في اتخاذ قرار العودة بهذا الحجم'، مرجحاً وجود 'دفع سياسي دولي وعربي يمهد لعودة العلاقات اللبنانية - العربية إلى سابق عهدها، ويستبق عودة السياح الخليجيين، لا سيما السعوديين'، مؤكداً أن 'هذه العودة تعكس تميز السوق اللبنانية وريادتها وموقعها بين أسواق العالم، رغم كل ما مر به لبنان على مدى العقود السابقة'، مشدداً على أن 'الجدوى الاقتصادية لهذه الخطوة تدعم اتخاذها في هذا التوقيت'.
وعلى رغم أهمية هذه العودة، يرى خاطر أنه 'لا يمكن قياس انعكاساتها على النمو لناحية الحجم، إذ لا تشكل العودة المرتقبة للعلامات التجارية الكبرى رافعة للاقتصاد، ولا حتى للقطاعات التي تندرج ضمن نطاقها'، معتبراً أن 'لها مردوداً اقتصادياً وانتشاراً جغرافياً محدودين'، ومشدداً على أن 'تحفيز النمو يبقى خطوة منوطة بالدولة عبر رسم السياسات المالية والنقدية تزامناً مع ضبط الحدود واستعادة القطاع المصرفي لدوره ووجود ميزان مدفوعات حقيقي'، مؤكداً أن هذه خطوات 'يستفيد منها المستثمرون بصورة مباشرة'.
يعد خاطر أن 'عودة الماركات العالمية إلى أسواق بيروت تشكل مؤشراً إيجاباً يعكس قدرة لبنان على استعادة دوره واستقطاب الاستثمارات، كما تعكس قدرة الاقتصاد اللبناني على التعافي'، مضيفاً أن 'هذا التعافي لا بد أن يمتد على مساحة الوطن، من خلال استقرار سياسي مستدام يكرس سيادة الدولة، ويعيد تفعيل العدالة، ويطلق يد الإنماء المتوازن'.
ويخلص إلى أن 'خطاب القسم والبيان الوزاري للحكومة يشكلان منطلقاً عملياً لنهضة لبنان'، لافتاً إلى 'أهمية الاستفادة من الزخم العربي والدولي المتزامن مع بداية عهد الرئيس جوزاف عون'، ومشيراً إلى ضرورة 'عدم تبديد هذه الفرصة الذهبية الناتجة من تبدل الأهواء السياسية في المنطقة'.
يعود بنا المؤرخ اللبناني عماد مراد إلى الحقب التاريخية التي شكلت ملامح بيروت التجارية منذ أيام المماليك، وصولاً إلى ما بعد الحرب الأهلية، مروراً بالنهضة العثمانية، ثم الانتداب الفرنسي، فالاستقلال، والانهيار الاقتصادي الأخير. بيروت، كما يراها مراد، 'ليست مجرد مدينة، بل ذاكرة متراكمة، ساحة تحولات سياسية وتجارية وثقافية، شهدت أعظم ازدهارات الشرق، كما شهدت أعنف الانهيارات'.
يبدأ مراد من القرن الـ14، 'حين بدأت بيروت تتحول إلى مركز تجاري مزدهر في ظل حكم المماليك الذين، بعد طرد الصليبيين، دمروا المرافئ القريبة من فلسطين لتفادي عودتهم، لكنهم أبقوا على بيروت لأنها أبعد جغرافياً، وبدأت تحتل مكانة تجارية مهمة، خصوصاً بعد دمار صيدا وصور. آنذاك، أصبحت محطة أساسية لتجار البندقية (فينيسيا) في شرق المتوسط، الذين أسسوا مكاتب لهم في المدينة. هذا الازدهار التجاري استمر نحو قرنين، حتى بداية العهد العثماني في القرن الـ16، حين بدأت مكانة بيروت تتراجع لمصلحة طرابلس وصيدا'.
ويضيف 'لكن منتصف القرن الـ17 شهد بداية نهضة جديدة، حيث أسست قنصلية فرنسية ولعب آل الخازن دوراً محورياً في إعادة تنشيط المرفأ والأسواق. ومع القرن الـ19 عادت بيروت لتسجل نهضة غير مسبوقة، ساعدتها تحولات جبل لبنان، حيث نزح مسيحيون من الجبل نتيجة النزاعات الطائفية، وأقاموا في بيروت حاملين معهم الحرف والتجارة. وبدعم من طريق العربات الذي ربط بيروت بدمشق تحولت المدينة إلى مركز تجاري حيوي يخترق بلاد الشام'.
يتابع مراد، 'الأسواق في بيروت خلال القرن الـ19 أصبحت عشرات، وتحمل أسماء العائلات والحرف: سوق الطويلة، سوق سرسق، سوق النجارين، العطارين، الحرير، القزاز، وغيرها. كلها مترابطة ومفتوحة على بعضها. كان من يطلب سلعة يعرف تماماً إلى أي زقاق يتوجه، ومن أي عائلة يشتري'، لافتاً إلى أن 'هذا الازدهار دفع السلطنة العثمانية عام 1888 إلى إعلان بيروت ولاية مستقلة تمتد من صفد إلى اللاذقية، بمساحة تقارب 30 ألف كيلومتر مربع، مما جعلها مركزاً إدارياً وتجارياً وعسكرياً بارزاً، خصوصاً مع تعيين وال عثماني رسمي وبناء المقار الحكومية والعسكرية'.
ومع دخول الانتداب الفرنسي بعد سقوط الدولة العثمانية عام 1918 واستقلال لبنان لاحقاً، يشير مراد إلى أن 'بيروت تحولت إلى العاصمة الرسمية عام 1926، وشهدت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي طفرة عمرانية متميزة عرفت بـ(العمارة الكولونيالية)، إذ استقدمت التصاميم الفرنسية والأوروبية وزينت الأبنية بالأقواس والحجارة المنحوتة. نهضة اقتصادية وثقافية تكرست مع وجود الأغنياء والبرجوازيين اللبنانيين مثل آل بستروس وسرسق والتويني'.
أما بعد الاستقلال، فقد 'عرفت بيروت، لا سيما في عهد كميل شمعون وفؤاد شهاب، قفزة نوعية، وتحولت إلى عاصمة العرب الاقتصادية والثقافية، وبوابة الشرق الأوسط، ونقطة عبور التجارة والسياحة، ونبضاً ليلياً لا يهدأ'. يقول مراد 'كان ليل بيروت يتصل بنهارها. من الأسواق إلى البورصة إلى المصارف إلى السهر. مدينة نابضة على مدار الساعة'.
غير أن كل هذا الانفتاح تهاوى فجأة عام 1975 حين اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية. يتابع مراد 'بيروت كانت أول من دفع الثمن لأنها كانت فسيفساء الطوائف والفصائل. خلال سنتين فقط بين 1975 و1976، دمرت أسواقها بالكامل، وتحولت إلى مدينة أشباح، وخط تماس دائم بين الشرق والغرب'.
استمر الشلل في وسط المدينة نحو 15 عاماً حتى قدوم رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي أطلق مشروع 'سوليدير' لإعادة إعمار بيروت عام 1994، وسط انتقادات متباينة حول أسلوب الخصخصة والتعويضات للمالكين. 'ورغم الانتقادات عادت الحياة تدريجاً إلى الوسط التجاري الذي شهد بين عامي 1998 و2004 ازدهاراً لافتاً، قبل أن تتلقى بيروت ضربة جديدة باغتيال الحريري عام 2005، ثم حرب يوليو (تموز) 2006، ثم الانقسام السياسي الداخلي والثورة السورية، وأخيراً أزمة 2019 وما تبعها من انهيار اقتصادي غير مسبوق'.
الذاكرة التي لا تموت
اليوم، وسط بيروت، كما يصفه مراد، 'بات مدينة أشباح مرة أخرى، محال مغلقة، استثمارات راحلة، ومراكز أعمال نقلت إلى دبي. من يمسك بالسلطة اليوم لا يملك فكراً اقتصادياً أو تجارياً، ولا مشروعاً لإعادة النهوض، (حزب الله) بفكره الأيديولوجي لا يرى في وسط بيروت أولوية، والسياسيون غارقون في انقساماتهم، فيما الثقة الدولية غائبة، والمستثمرون هربوا'.
لكن رغم هذا السواد لا يغلق مراد الباب على الأمل. فـ'اليوم هناك فرصة'، يقول 'دعم عربي كبير، سعودي وخليجي، دعم أوروبي وأميركي، ولكن بشرط: أن تمارس الدولة اللبنانية سيادتها، أن يحل ملف سلاح الحزب، أن ترسم الحدود مع إسرائيل وسوريا، وأن تترك الحياة بيد الدولة والجيش، لا بيد أي طرف آخر'.
ويختم المؤرخ حديثه قائلاً 'لبيروت ذاكرة لا تموت، وإن عادت الإرادة السياسية، يمكن أن تعود بيروت إلى الحياة. الأسواق ليست حجارة فحسب، بل نبض شعب، والنبض يمكن أن يعود إذا خرج القرار من الموت السريري'.