اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ١٧ تموز ٢٠٢٥
كتب ابراهيم العرب في 'اللواء':
تشهد محافظة السويداء في جَنُوب سوريا منذ أشهر اضطرابات متفاقمة، نتيجة اشتباكات بين مجموعات مسلّحة محلية وقوات الدولة، في ظل سعي أطراف إقليمية ودولية لاستثمار موقع الطائفة الدرزية في صراعات أكبر. هذا التصعيد يهدّد بزعزعة استقرار المُحافظة والمنطقة برمّتها، ما يستدعي تدخّلاً عقلانياً يوازن بين الواقع السياسي والحفاظ على السلم الأهلي.
في هذا السياق، يطلّ الزعيم اللبناني وليد بك جنبلاط، المعروف برؤيته المتزنة ومسيرته الطويلة في إدارة الأزمات، ليقدّم طرحاً يبتعد عن منطق التصعيد ويدعو إلى حلّ سياسي ينطلق من داخل الدولة السورية، ويهدف إلى منع انجراف الطائفة الدرزية نحو مشاريع مشبوهة لا تخدم سوى الانقسام والفوضى.
وليد كمال جنبلاط، الذي لطالما تميّز بنهج براغماتي لا يتنازل عن مبادئه، فقد عبّر منذ اللحظة الأولى عن رفضه لأي تحوّل للحراك الأهلي في السويداء إلى نزاع مسلّح، وشدّد على ضرورة الالتزام بوقف إطلاق النار وتسليم السلاح الثقيل إلى الدولة، مؤكداً أن الأمن والاستقرار لا يتحققان إلّا من خلال مؤسسات الدولة الرسمية، وليس عبر السلاح المتفلّت. وأوضح في تصريح حديث لقناة «الحدث» أن «السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا»، كاشفاً عن تواصلٍ شبه يومي مع المسؤولين السوريين، واستعداده الشخصي لزيارة دمشق من جديد من أجل التنسيق وتهدئة الأوضاع.
وجنبلاط، الذي سبق أن زار دمشق في ظروف دقيقة والتقى الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، لم يتردّد في قول ما يراه صواباً، والتعبير عن مخاوفه بجرأة تنبع من موقع العارف، فحين حذّر من أن اللهيب إذا اشتعل قد يأخذ سوريا إلى الفوضى وعدم الاستقرار، أكد يومها أن على النظام السوري الجديد أن يمدّ اليد للآخرين، وأن يؤسس لحكم شرعي نابع من إرادة جميع المكوّنات، لا سيما الأقليات التاريخية، وفي طليعتها الطائفة الدرزية.
وقد نبّه جنبلاط يومها إلى أن معالجة العلاقة مع الأقليات لا يجب أن تكون أمنية الطابع، بل يجب أن ترتكز إلى التسامح والتكامل في مشروع دولة قائمة على التعددية والتعايش. كما حذّر من استغلال إسرائيل للأزمة ومحاولاتها المستمرة لاستقطاب بعض الأصوات الخارجة عن الإجماع داخل الطائفة الدرزية، بهدف ضرب النسيج الوطني السوري من الداخل، مؤكّداً أن «إسرائيل لا تحمي أحداً»، بل تستثمر الأزمات لتغذية مشروعها التفتيتي في المنطقة.
إنّ رؤية جنبلاط لحلّ الأزمة، لا تكتفي بتشخيص المشكلة، بل تقدّم مقترحات ملموسة، تبدأ بتفعيل الحوار الداخلي بين أبناء السويداء أنفسهم، كمدخل لتسوية النزاعات وتفكيك التوترات، مع ضرورة تشكيل لجنة عربية مصغّرة لمواكبة مسار التهدئة، بالتوازي مع مشاريع تنموية تعيد الحياة إلى المحافظة، وتفتح أبواب إعادة إدماج الشباب والمسلحين في المجتمع المدني من خلال برامج تأهيلية شاملة.
وقد أثمرت مقاربة جنبلاط، في إحدى محطاتها السابقة، عن تهدئة كبيرة في المحافظة، حيث لقي تحرّكه صدىً إيجابياً لدى شرائح أساسية داخل الطائفة، ما ساهم في خفض منسوب التوتر والتوصل إلى اتفاق غير معلن هدّأ الأجواء. وقد عُدّ هذا التحرك بمثابة تدخّل حاسم مَنع الانزلاق إلى صِدام دموي لا تُعرف نتائجه، وأثبت أن جنبلاط هو من القلائل القادرين على مقاربة الأزمات العصيّة بشجاعة وحنكة.
كما أنّ جنبلاط، في هذا المسار، لا يخشى أن يُغضب خصومه، ولا حتى أن يثير حفيظة بعض مناصريه أو أبناء طائفته، طالما أنّ ما يقوله ويفعله نابع من ثوابت راسخة ووطنية. وهو يدرك تماماً أن السير بين التناقضات يتطلّب عقلاً راجحاً لا تغريه الانفعالات، وبصيرة تتقدّم المخاوف ولا تنغمس فيها.
كما أنّ دعوته إلى دور عربي فاعل في حلّ أزمة السويداء تأتي في إطار رؤيته القومية، التي تعتبر أن غياب المظلّة العربية عن المشهد السوري ساهم في تمدّد الفوضى. فبقدر ما شدّد على مركزية التنسيق مع الدولة السورية، دعا العرب إلى دعم هذا المسار، من منطلق أنّ استقرار سوريا ضمان لاستقرار الإقليم، وليس العكس.
إنّ مقاربة وليد جنبلاط لأحداث السويداء تتجاوز التحليل السياسي إلى تقديم نموذج يُحتذى به في كيفية معالجة الأزمات في مجتمعات متداخلة ومعقّدة. وإنها لدعوة إلى تغليب منطق الدولة على الفوضى، والانخراط في مسار جامع يستند إلى الحوار والمصالحة، بدل الاستقواء بالخارج أو الانزلاق نحو صراعات عبثية.
وفي لحظة يغيب فيها صوت العقل، يُثبت وليد بك جنبلاط مجدّداً أنّه أحد آخر معاقل الحكمة في زمن الجنون. فهل تلقى دعوته آذاناً صاغية، سواء لدى أبناء السويداء أو في الأوساط الإقليمية؟ علّ الجنوب السوري يعود إلى هدوئه، وتستعيد الطائفة الدرزية دورها الطبيعي في قلب النسيج العربي السوري، وتُسهم، كما كانت دوماً، في بناء وطن موحّد، مستقل، ومستقر.