اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
في الغرفة فيل هو 'الحزب'، لكنّه ليس الفيل الوحيد. تواضع الحزب بعد الحرب الأخيرة. وما زال الشيخ نعيم قاسم يردّد لغة آفلة عن الاستراتيجية الدفاعية، لكنّ الحزب عملياً لم يعد نفسه، ومن المفترض أنه يعي حجم الكارثة التي ألمّت به وبالطائفة الشيعية، ويشعر بحجم الضغط الأميركي الإسرائيلي عليه وبالخطر المحدق بمستقبله القريب
على طيبته، وحمضه الوراثي الريفي، لمس العمّ توم برّاك جرحاً لبنانياً عميقاً، إذ قال إن لبنان مهدّد بالعودة إلى بلاد الشام، ما لم يتّفق أبناؤه في ما بينهم على خلاص ما.
ومع أن لبنان في الأصل جزء من 'بلاد الشام'، إلا أن اللبنانيين، فهموا أن العمّ توم يقصد سوريا، وعلى الأرجح أنه كان يقصد ذلك. هذه 'العودة'، مع فائق الحبّ للشعب السوري، كابوسية للبنانيين بالقدر ذاته للسوريين.
موعظة العمّ الأميركي البسيط التي أرعبت اللبنانيين، كانت في محلّها. لبنان الوطن النهائي لجميع أبنائه كان حتى الأمس القريب، حتى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، قدراً ووطناً نهائياً لجميع أبنائه، أحببنا ذلك أم لا.
لكنّ العالم الذي تغيّر بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، عاد ليتغيّر بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. إسرائيل وأميركا في أقلّ من سنتين نبشتا المنطقة، قلبتاها رأساً على عقب، ومعها قلب هذا الثنائي المعتوه الثوابت القليلة التي كانت باقية، ومنها نهائية الكيانات وحدود البلاد.
حدود سوريا الجنوبية الآن عائمة بانتظار ما يقرّره بنيامين نتانياهو، وغزّة على ما نرى، والحال من حاله في الضفّة الغربية. الحدود اللبنانية هي الواضح الوحيد. لدينا خمس نقاط محتلّة، وسماء مشرّعة على اعتداءات واغتيالات يومية، آخرها اختصر مأساته صوت طفلة في التاسعة تبكي أمّها وأباها وهما يموتان أمام عينيها، وقد ماتا أمام عينيها.
مع ذلك، فهذا الوضوح في الحدود، إن جنوباً أو شرقاً وشمالاً، ليس حقّاً طبيعياً لنا في هذا الزمن. لا أحد يعلم ما الذي يدور في رأس نتانياهو، وقد أخذته نشوة انتصاراته وفائض جبروته إلى أوهام كبرى بينه وبين تحقيقها خراب هائل.
أيضاً، لا أحد يعلم أيضاً ما ستكون عليه آخر صيحات موضة الفوضى التي تدبّ في سوريا، والتي تتبدّل مع الساعة، على الرغم من تثبيت الصورة البصرية الجديدة التي لحقتها كما رأينا صور بصرية من القرون الوسطى.
لبنان عالق بين هذين الفكّين، ولا خلاص له إلا بالانكماش إلى الداخل، إلى ال 'لبنان أوّلاً'.
لبنان أوّلاً بمعنى أنه يعيش فعلاً أزمة وجوده كما هو كما لم تمرّ عليه حتى في أسوأ أيّام حربه الأهلية. لبنان أوّلاً على علّاته، بلبنانييه وطوائفهم وزعمائهم ومشاربهم على علّاتهم. لبنان أوّلاً بقوميّته اللبنانية التي رسّختها وحدة حال الجنسيّة والجغرافيا والتاريخ المشتركين، والنظام الفريد والغريب من نوعه الذي صنع هوّية مختلفة عن كلّ محيطه، بعد أكثر من قرن على إعلانه دولة لبنان 'الكبير'.
لبنان أوّلاً لأن ليس للبنانيين إلا اللبنانيون في مهرجان الجنون الإقليمي هذا. والطوائف لا تملك خيارات كثيرة، فإما أن تستمر في تبادل البارانويا والحقد وحفر الحفرة لأختها تلو الحفرة، وإما أن تُغلق باب هذا البيت على أهله، وتجلس، وتحكي.
في الغرفة فيل هو 'حزب الله'، لكنّه ليس الفيل الوحيد. تواضع الحزب بعد الحرب الأخيرة. ما زال الشيخ نعيم قاسم يردّد لغة آفلة عن الاستراتيجية الدفاعية، لكنّ الحزب عملياً لم يعد نفسه، ومن المفترض أنه يعي حجم الكارثة التي ألمّت به وبالطائفة الشيعية، ويشعر بحجم الضغط الأميركي الإسرائيلي عليه وبالخطر المحدق بمستقبله القريب. وهو فعلياً محاصر من كلّ الجهات، لا فرق بين الجنوب أو الشرق والشمال، أو البحر والسماء. وإيران غائبة عن السمع. في أحلك ساعة، لا منفذ لديه إلا وضع ثقته بالداخل اللبناني، بالرئيس الذي انتخبه، وبالحكومة التي للثنائي حصّته الكاملة فيها، وبالأحزاب والأطراف التي يشاركها مجلساً نيابياً واحداً.
بدلاً من معاملة هذا السلاح بصفته الابن المدلّل الممنوع على أحد التدخّل في تربيته، ربما من الأفضل طرحه في نقاش وطني يقرّر مآلاته قبل انسحاب إسرائيل وإقلاعها عن اعتداءاتها، التي يعجز الحزب عن إجبارها عليهما وسلاحه معه.
بدلاً من أن يُبقي 'حزب الله' سلاحه كأداة دفاع أخيرة عن نفسه وطائفته في وجه الآخر اللبناني، بعدما سقطت معادلة الثلاثية المذهبة، وسقطت قبلها معادلة الردع، عليه أن يثق لمرة في تاريخه بهذا الآخر، يثق بالدولة، لأنها الآن حليفه الوحيد وجداره الأخير.
الفيل الثاني الذي يزاحم 'حزب الله' في الغرفة الضيّقة، هم الذين ينتظرون من إسرائيل إنهاء الحزب، وبطريقها الطائفة. هؤلاء يظنّون أن بنيامين نتانياهو حدّاد لديهم يصنع السيوف، على ما يقول نزار قباني عن العرب والله. نتانياهو يقتات من هذا الغباء بالتحديد. ليس أغلى على قلبه من الفرجة على المجتمعات المحيطة بثكنته العسكرية تتفكّك إلى صيغة ما قبل الدول، وكلّ ديك ينادي أنا أمّة. لا خير يُرتجى من التعويل على هذا المسعور، لا خير يُرتجى أيضاً في فائق التذاكي والتحليل وتمنّي زوال فئة هي أقلّية أخرى من مجموع الأقلّيات التي تشكّل لبنان. والشيطان حين يطلّ بقرنيه لن يفرق في الخراب بين الناس. سوريا مثل ساطع.
إما أن ترتقي فيلة لبنان إلى اللحظة المصيرية، وتثق ببعضها بعضاً، وتجلس في غرفة وتناقش بصدق مصيرها المشترك ومصير بلدها، ولا تخرج قبل الوصول إلى حلّ يجنّبه مصيراً قاتماً آتياً لا محال، وإما أن تشرّع الباب للرياح الهوجاء الآتية من كلّ حدب وصوب، وحينها، لن تتحقّق نبوءة العمّ توم بالضرورة، لكن ما سيتحقّق سيكون أسوأ بكثير من العودة إلى بلاد الشام، أو بلاد البؤس الواسعة.