اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ٢٤ أب ٢٠٢٥
كتب داود رمال في 'نداء الوطن':
يحتل وليد جنبلاط موقعًا محوريًا في الحياة السياسية اللبنانية والعربية، ليس فقط بصفته زعيمًا درزيًا أو رئيسًا سابقًا للحزب 'التقدمي الاشتراكي'، بل باعتباره شخصية لعبت دورًا بالغ التأثير في ترسيخ مسار وطني وعروبي في لحظات مفصلية من تاريخ لبنان والمنطقة. فمنذ دخوله المعترك السياسي في أعقاب اغتيال والده المعلم الشهيد كمال جنبلاط، سعى إلى جعل القيم الوطنية والبعد القومي العربي ركيزة لمواقفه، واعتبر أن موقع لبنان الطبيعي يكون في محيطه العربي، وأن استقلاله لا يكتمل إلا من خلال الحفاظ على سيادته وانفتاحه على أشقائه العرب ومواجهة مشاريع التفتيت المذهبي والطائفي.
في محطات تاريخية عدة، أثبت جنبلاط جرأة استثنائية في اتخاذ قرارات صعبة، خصوصًا في ما يتعلق بالمصالحة الوطنية وطي صفحات الماضي السوداء. فقد كان صاحب المبادرة الأبرز في إعادة بناء الجسور بين أبناء الجبل بعد الحرب الأهلية، من خلال مصالحة تاريخية رعتها الكنيسة المارونية بقيادة المثلث الرحمة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، والتي تحولت إلى نموذج في كيفية تجاوز الصراعات الداخلية وإعادة تثبيت الوحدة الوطنية. لم تكن تلك الخطوة مجرد إجراء سياسي ووطني وليد لحظة معينة، بل محطة تأسيسية في تاريخ لبنان الحديث، إذ أعادت الاعتبار إلى منطق الدولة وإلى قدرة المجتمع اللبناني على تضميد جراحه بأدوات داخلية ومبادرات شجاعة.
مواقف جنبلاط الوطنية والعروبية لم تكن محصورة في الساحة اللبنانية، بل امتدت لتشمل القضايا الإقليمية الكبرى، وفي مقدمها القضية الفلسطينية التي لطالما اعتبرها قضية العرب المركزية. كما كان حاضرًا في مواقفه التضامنية مع سائر البلدان العربية في مواجهة العدوان الإسرائيلي ومشاريع التفتيت التي حاولت قوى دولية وإقليمية فرضها على المنطقة. هذا الثبات على خط العروبة والوطنية جعله عرضة لهجمات سياسية وإعلامية متكررة، لكنه لم يتراجع عن قناعته بأن لبنان لا يمكن أن يعيش معزولًا عن محيطه، وأن قوته تكمن في انتمائه العربي ووحدته الداخلية.
في الأحداث الأخيرة التي شهدتها محافظة السويداء السورية، برزت مرة جديدة أهمية نهج جنبلاط، إذ تعامل مع التطورات بوعي وحكمة، رافضًا الانجرار إلى أي خطاب يؤجج الفتن أو يعمّق الانقسامات داخل المجتمع السوري. هذا الموقف الحكيم لم يقتصر على الداخل السوري، بل حمل انعكاسًا مباشرًا على لبنان الذي يتأثر بالضرورة بما يجري في محيطه، فجاءت مقاربته لتؤكد حرصه على الاستقرار وتجنّب الانجرار إلى أي دوامة جديدة من الصراعات. وقد لقيت هذه المواقف ارتياحًا واسعًا في الأوساط اللبنانية الوطنية، حيث عبرت غالبية القوى والشخصيات عن دعمها لرؤيته، باستثناء قلة قليلة لا تزال تنفخ في بوق الفتنة وتحاول عبثًا تحريف بوصلة النقاش نحو اتجاهات ضيقة لا تخدم المصلحة الوطنية.
الدور الذي أدّاه وليد جنبلاط في تكريس مبدأ الشراكة الوطنية والعروبة السياسية يتجاوز الأطر التقليدية لزعامة طائفية أو حزبية. فهو يجمع بين الخبرة التاريخية والإرث السياسي لوالده من جهة، وبين الجرأة في اتخاذ مواقف غير شعبوية من جهة أخرى، ما جعله قادرًا على المبادرة في لحظات مصيرية تحتاج إلى صوت عاقل يوازن بين الواقعية السياسية والمبادئ الوطنية. واليوم، في ظل التحديات التي يواجهها لبنان والمنطقة من ضغوط خارجية وصراعات داخلية، يبرز إرث جنبلاط كضرورة لإعادة صياغة الحياة السياسية على قاعدة الانتماء الوطني والعربي، بعيدًا من الحسابات الضيقة والمصالح الفئوية.
بهذا المعنى، فإن المواقف الوطنية والعروبية لوليد جنبلاط لم تكن مجرد رد فعل على أحداث راهنة ومستمرة، بل شكّلت رؤية استراتيجية تستند إلى قناعة راسخة بأن لبنان، بتاريخه ودوره الحضاري، لا يمكن أن يحيا إلا من خلال وحدته الداخلية وتعاونه مع محيطه العربي. ورغم الحملات التي يتعرض لها، تبقى بصمته واضحة في مسار تكريس المصالحة ورفض الفتن وتعزيز مناعة الدولة في مواجهة الأخطار، وهو ما يجعله أحد أبرز الأصوات التي لا تزال ترفع راية الوطنية والعروبة في زمن الانقسامات.
يبقى وليد جنبلاط، رغم كل المنعطفات التي مرّ بها، رجل الموقف الذي لا يهاب ولا يتردّد، يحمل إيمانه بلبنان والعروبة، ويسير دائما نحو ما هو أصعب وأخطر إن تطلّب الأمر، حاملًا دمه على كفّيه، مدركًا أنّ التاريخ لا يكتب إلا بأفعال الكبار. ومن المختارة يخرج صوته ليذكّر أنّ الزعامة لا تُقاس بطول البقاء بل بقدرة صاحبها على صون الوطن، ورسم الطريق الذي يقود إلى خير لبنان وخير الدول العربية في مواجهة العواصف.