اخبار سوريا
موقع كل يوم -اقتصاد و اعمال السوريين
نشر بتاريخ: ١٥ تموز ٢٠٢٥
قبل أيام، نشرت صحيفة 'النهار' اللبنانية، ما قالت إنه نقلاً عن موقع 'إنتلجنس' الاستخباري الفرنسي، في إطار حديثه عن ملاحقة أموال بشار الأسد والمقرّبين منه قانونياً، والذي أشار إلى وجود لجنة سرّية في القصر الجمهوري في دمشق، مهمّتها إجراء تسويات مع كبار رجال الأعمال الذين كانوا داعمين للنظام السابق.
وتداول الموقع الفرنسي، بحسب 'النهار'، اسم شخص يعرف بـ 'أبو مريم الأسترالي'، والذي وصفته بأنه هو من يترأس هذه اللجنة، لكن الصحيفة بدل أن تركز على طبيعة الأموال التي كان يديرها بشار الأسد، وحالة الفساد الكبيرة التي شكلتها، ذهبت إلى التركيز على المدعو 'أبو مريم الاسترالي' بوصفه اسماً يحمل دلالات خاصة بـ 'هيئة تحرير الشام'، كما لو أنها تريد القول، بأن الفساد سوف ينتقل من يد لأخرى، وربما أسوأ من السابق.
لكن على مقلب آخر، الأمور ليست على هذا النحو، ونحن نستغرب، أو أنا شخصياً أستغرب صمت الحكومة الجديدة عن هذا الملف وإدارته في الخفاء، الأمر الذي يثير الشكوك التي ذهبت إليها الصحيفة اللبنانية أو الموقع الفرنسي.
وسبق لي خلال الأشهر الماضية التواصل مع بعض من تولوا الإشراف على أموال بشار الأسد وحاضنته الفاسدة، والتي يأتي على رأسها، مدير مكتبه الاقتصادي، يسار إبراهيم، وحصلت من خلالهم على معلومات مرعبة عن حجم هذه الأموال والأساليب الشيطانية والخطط التي كان يتبعها النظام السابق ورجالاته من أجل أن تبقى هذه الأموال تحت سطوتهم حتى في حال سقوطهم وهروبهم. وهو ما يحدث اليوم، وربما هذا ما يدفع الإدارة الجديدة للبلاد لإجراء تسويات مع كبار رجالات الأعمال الداعمين للنظام السابق، وذلك حتى لا تذهب هذه الأموال بالكامل.
ما هي القصة..؟
في العام 2012، لفت انتباهي أن أغلب الصفقات التجارية الحكومية وأسماء الشركات المتقدمة للحصول عليها كانت تحمل اسم 'أوف شور'.. فما هي هذه الشركات؟، وما سر انتشارها بعد اندلاع أحداث الثورة السورية في العام 2011..؟
بدأت شركات 'الأوف شور'، والتي تعني ما وراء البحار، بالانتشار في العالم في الآونة الأخيرة، كوسيلة لغسيل الأموال والتهرب من دفع الضرائب في البلد الأم لصاحب هذه الشركة، وهو ما كشفت عنه وثائق بنما في العام 2016، من أن أغلب عمليات غسيل الأموال كانت لشركات الأوف شور، والتي استخدمها رجال الأعمال ورجال السياسة لإخفاء أموالهم.
ويقوم نظام الترخيص لشركات 'الأوف شور' على عمليات بسيطة تستغرق الشهر فقط، ويستطيع أي شخص أن يحصل عليه عبر الأنترنت وبتكاليف محدودة، ودون أن يكون مضطراً للكشف عن مصادر أمواله، ويحظى في نفس الوقت، بالسرية المصرفية والمعلوماتية.. وأغلب الجهات التي تعطي الترخيص لمثل هذا النوع من الشركات، موجودة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وميزة هذا النوع من الشركات، أنها تتيح لحامل الترخيص، أن يقوم بعمليات التجارة الدولية وبشكل نظامي ودون أن يتعرض للمساءلة من أية جهة كانت وفي أي دولة يقوم بالتجارة معها، كما أن حامل الترخيص يحظى بإعفاءات ضريبية كبيرة وفق ما ينص عليه قانون هذا النوع من الشركات.
وفي سوريا، وجد النظام في هذا الشكل من الشركات، الفرصة لكي يتهرب من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليه وعلى رجالاته، كونه يستطيع أي شخص ودون أن يتمتع بالملاءة المالية الكافية، أن يحصل على الترخيص من الشركة الأم الموجودة في بريطانيا، والتي يعنيها بالدرجة الأولى الحصول على رسوم الترخيص والضرائب السنوية.. وهي في العموم مبالغ بسيطة.
وتشير معلوماتنا، إلى أنه في سوريا، تم الترخيص لأكثر من ألف شركة 'أوف شور' خلال سنوات ما بعد الثورة وحتى سقوط النظام، والبداية كانت من رامي مخلوف الذي أسس شركة للنقل التجاري البحري، ثم توالت التراخيص انطلاقاً من الحاجة لغسيل الأموال والقيام بأعمال التجارة الخارجية.
وحصلنا على معلومات مؤكدة من مصادر خاصة، أن أسماء الحاصلين على ترخيص هذا النوع من الشركات، هم أشخاص عاديون، لكنهم يعملون لصالح رجال أعمال كبار ورجال المخابرات والسياسة ممن طالتهم العقوبات الاقتصادية الأوروبية.
وقد لاحظنا من خلال تتبعنا لعمل هذه الشركات في سوريا، أن إحدى المناقصات لشراء 200 ألف طن قمح من روسيا، التي تمت في 5/7/2017، تقدمت لها شركتان فقط، هما 'سيستوس أوف شور'، و'غروب أوف شور'، الأولى تقدمت بعرض 220 دولار للطن والثانية 230 دولار للطن، وقد رسا العرض بالشكل الطبيعي على الأولى.. لكن بعد التدقيق تبين أن الشركتين تعودان لأحد المتنفذين في أجهزة المخابرات، لكنهما مرخصتان باسمين مختلفين.
واللافت للانتباه في تلك الفضيحة أن الحكومة قامت بإقراض الشركة التي رست عليها المناقصة، مبلغ 1.7 مليار ليرة سورية، من أجل تنفيذ الصفقة.. أي أن الشركة لم يكن لديها حتى الملاءة المالية لدفع ثمن القمح، الأمر الذي سمح لها بتحقيق أرباح طائلة، لأنها فيما بعد باعت سعر طن القمح للدولة بمبلغ 350 دولاراً.
لماذا يصعب الحجز على شركات 'الأوف شور'..؟
أول ما اصطدمت به الإدارة الجديدة للبلاد، التي وضعت يدها على أموال بشار الأسد وأعوانه من رجال الأعمال الفاسدين المرتبطين به، أن جميع الشركات التي يملكونها هي شركات 'أوف شور'، أي ترخيصها خارجي بأسماء أشخاص غير معروفين ويحملون جنسيات أجنبية، مثلما حدث الأمر مع الشركة التي سيطرت على محطة دير علي للكهرباء ومطار دمشق الدولي، قبيل سقوط النظام، والتي كانت تحمل اسم 'إيلوما' وتعود ملكية ثُلثَي أسهمها، لفتاة اسمها رزان حميرة عمرها 32 عاماً، وفتاة أخرى اسمها راميا حمدان.
وبحسب قانونيين، فإن هذه الشركات يصعب على الدولة السيطرة عليها ومصادرة أموالها، لأنه من الصعب إثبات ملكيتها للأشخاص الحقيقيين ممن عليهم عقوبات اقتصادية أوروبية أو أمريكية، ويحتاج الأمر إلى سنوات طويلة من الدعاوى الدولية وتكاليف مالية هائلة، دون الوصول إلى نتيجة.
وعدا عن ذلك، فإن إقفال هذه الشركات ومنعها من مزاولة العمل على الأراضي السورية، سوف يكون له ضرر كبير، لأن بعضها يؤدي خدمات أساسية، مثل شركات الاتصالات، حيث يقال بأن شركة 'سيريتل' تم ترخيصها كشركة 'أوف شور'، والعديد من الشركات الكبيرة التي يملكها رجل الأعمال محمد حمشو وسامر فوز، بالإضافة إلى شركات يسار إبراهيم، وغيرهم الكثير.
لذلك، وهذا ما أعتقده، أن الدولة لجأت إلى طريقة أفضل حتى لا تخسر هذه الشركات وأصولها، والعمالة الكبيرة التي توظفها، وذلك من خلال التفاوض مع مالكيها الحقيقيين، عبر إجراء تسويات معهم، تستعيد الدولة بموجبها ملكية هذه الشركات مع بعض التنازلات، في سبيل المصلحة العامة. وهو ما حصل مع قصة مجمع 'جونادا' السياحي في طرطوس، الذي يقال بأن ملكيته الحقيقية تعود ليسار إبراهيم، أي بشار الأسد، بينما ملكيته الوهمية تعود لخمسة أشخاص غير معروفين.. لذلك استطاعت الدولة استعادة هذا المنتجع ومن ثم استثماره من جديد وبما يحقق عوائد كبيرة للخزينة العامة.
أيضاً، يقال بأن هناك مفاوضات سرية مع رامي مخلوف وسامر فوز ويسار إبراهيم وغيرهم الكثير من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق والذين يملكون شركات 'أوف شور'، وتعمل في سوريا تحت اسم ماركات عالمية ومنها بنوك، من أجل تخليصهم من هذه الشركات بأقل قدر ممكن من الخسائر للاقتصاد الوطني، إذ تشير المعلومات إلى أن حجم هذه الشركات وأصولها المالية تقدر بعشرات مليارات الدولارات.
ويبقى السر في الكتمان الحكومي، الذي يدفع الآخرين لتفسيره على أنه استبدال فساد بفساد آخر.. فما المانع أن يخرج أحد من الدولة ويشرح ما يجري العمل عليه وأهميته، ثم يوضح الآلية التي سيتم بها إدارة هذه الأموال المنهوبة، والمستعادة لملكية الدولة..؟
نضع هذا السؤال برسم المعنيين، آملين الإجابة والتوضيح.