اخبار سوريا
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ٥ كانون الأول ٢٠٢٥
على مدى أكثر من عقد، ضخّت وكالات الأمم المتحدة ملايين الدولارات في الشركة على رغم التحذيرات الصادرة عن مدافعين عن حقوق الإنسان.
داخل مركز تسوّق باهت في دمشق، وفي نهاية ممر غير مُضاء في الطابق الرابع، يقع مكتب لشركة 'شروق' للحماية والحراسة والخدمات الأمنية. تشير لافتة عند المدخل إلى أن الممر مراقَب بالكاميرات.
ليست هذه شركة أمن عادية. فخلال الحرب الأهلية السورية، دفعت الأمم المتحدة لـ'شروق' ما لا يقل عن 11 مليون دولار لتوفير خدمات أمنية لحماية مكاتبها – من مقرها الفعلي في فندق 'فور سيزونز' بدمشق إلى مراكزها الإقليمية الأخرى.
تكشف وثائق داخلية الآن، أن الشركة كانت مملوكة سرًا لأجهزة الاستخبارات التابعة لنظام الرئيس السابق بشار الأسد. ففيما كانت الأمم المتحدة تضخ الأموال في الشركة، كانت تلك الأجهزة الاستخباراتية تشنّ حملة عنيفة لسحق أي معارضة لنظام الأسد.
تأتي الوثائق التي تُظهر ملكية إدارة المخابرات العامة لـ'شروق'، من مجموعة أوسع تضم ما يقارب الثلاث عشرة وثيقة، تحتوي على معلومات متّسقة داخليًا حول الشركة. وقد حصل عليها مصدر تمكّن من الوصول إليها في الأيام الفوضوية الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد. وتحدّث 'الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين' (ICIJ) مع المصدر عن كيفية الحصول على الوثائق، وتحقّق من التفاصيل الأساسية المتعلقة بـ'شروق' وفروع المخابرات السورية الواردة فيها من خلال معلومات منشورة ومتاحة للجمهور.
قال المدير العام لـ'شروق'، وائل الحاو، في رسالة إلكترونية إلى ICIJ، إن الوثائق التي حصلت عليها المنظمة 'غير صحيحة وغير دقيقة'، مضيفًا أن 'شروق' لم تكن في أي وقت مملوكة لأي مؤسسة حكومية، وأن أصحابها هم رجال أعمال مدنيون بارزون في سوريا، لكنه لم يذكر أسماءهم.
وأكد فريق الأمم المتحدة في سوريا لـ ICIJ، أن المنظمة لا تزال تتعامل مع شركة 'شروق' كمقاول حتى اليوم. وذكر الفريق أنه لم يجد أثناء عملية الشراء 'أي وثائق رسمية أو أدلة يمكن التحقق منها'، تشير إلى ملكية إدارة المخابرات العامة في عهد الأسد للشركة.
وتُظهر وثائق أخرى صادرة عن أجهزة مخابرات الأسد – حصل عليها ICIJ بشكل منفصل عن الرسائل الخاصة بملكية 'شروق' – تدخُّل النظام السابق في شؤون الشركة. ففي مذكرة واحدة، يقترح ضباط مخابرات إرسال رسالة إلى منظمة 'هيومن رايتس ووتش' باسم 'شروق'، وفي أخرى يضع ضباط كبار خططًا لعرقلة 'إعادة تقييم' من جانب الأمم المتحدة لعقودها مع الشركة.
كتب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في مذكرة مسرّبة أخرى، أن ضمان احتفاظ شركة شروق وغيرها من شركات الأمن بعقودها مع الأمم المتحدة، أمر مهم، لأن كوادر هذه الشركات كانت تراقب موظفي الأمم المتحدة لصالح نظام الأسد.
حذّرت منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة غير حكومية أخرى هي برنامج التنمية القانونية السوري، الأمم المتحدة عام 2022 من الروابط المتعددة المبلَّغ عنها بين شركة شروق ونظام الأسد. وردّت الأمم المتحدة بأن هذه العقود لا تنتهك معاييرها، وواصلت التعاقد مع شروق لعامين إضافيين.
تعود مذكرة المقداد، ووثائق مخابرات الأسد ذات الصلة، إلى أرشيف يضم أكثر من 134 ألف سجل حصلت عليه هيئة الإذاعة الألمانية NDR وراجعه الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، وهي ملفات تشكّل أساس تحقيقات 'ملفات دمشق'، وهو مشروع جديد يقوده الاتحاد مع 25 شريكًا إعلاميًا في 20 دولة. يكشف المشروع جهاز النظام الواسع للاعتقال والتعذيب والقتل بحق المواطنين السوريين، وكذلك الدور الذي لعبته منظمات دولية في تمويل النظام خلال هذه الحملة القمعية.
وتُظهر وثائق داخلية منفصلة لشركة شروق حصل عليها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، أن الشركة كانت مملوكة لفرع من فروع أجهزة المخابرات السورية. وتقدّم هذه المصادر مجتمعة نظرة غير مسبوقة على كيفية استفادة نظام الأسد من عقود الأمم المتحدة، ثم ضغوطه لاحقًا على المنظمة لضمان استمرار تدفق الأموال بعد كشف صلات شروق بالنظام.
وُقِّعت عقود الأمم المتحدة مع شروق، التي عملت تحت أسماء عدة، في خضمّ الحرب الأهلية الدامية في سوريا. فقد بدأت الانتفاضة عام 2011 كحركة احتجاجية سلمية، ثم تحولت إلى صراع مسلح بين نظام الأسد ومعارضيه، أودى بحياة مئات آلاف السوريين واستدرج قوات عسكرية من الولايات المتحدة وروسيا وإيران. واستخدم النظام السابق أساليب بالغة الوحشية للحفاظ على قبضته على السلطة، شملت القصف العشوائي والتعذيب والهجمات بالأسلحة الكيميائية، قبل أن يسقط في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
وقّعت وكالات الأمم المتحدة أكثر من 130 عقدًا وأمر شراء مع شركة شروق بين عامي 2014 و2024. وخلال هذه الفترة، دفع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وحده ما مجموعه 9 ملايين دولار لشروق، كما تعاقدت الشركة مع وكالات أخرى تابعة للأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي.
قالت إيما بيلز، كبيرة المستشارين في المعهد الأوروبي للسلام، إن عقود الأمم المتحدة مع شروق تعني أن أموال المساعدات كانت تذهب مباشرة إلى جيب نظام يموّل جهازًا أمنيًا احتجز وقتل عشرات آلاف السوريين، وآلة حرب قصفت مواطنيها لأكثر من عقد.
في وثائق داخلية مسرَّبة، وصفَ مديرو 'شروق' الشركة بأنها ذراع لإدارة المخابرات العامة، إحدى أكثر مؤسسات إنفاذ حكم الأسد قسوة. وبينما كان كثير من المتعاقدين مع الأمم المتحدة في سوريا على صلة بشخصيات مقرّبة من النظام، تكشف هذه الوثائق عن أول حالة معروفة لوكالات أممية تستأجر شركة مملوكة بشكل مباشر لجهاز استخبارات تابع للأسد.
في وثيقة تعود إلى حزيران/ يونيو 2019، أرسلت الشركة شيكًا بقيمة 50 مليون ليرة سورية، أي نحو 100 ألف دولار، إلى إدارة المخابرات، مرفقة برسالة من وائل الحاو يوضح فيها أن هذه الأموال تمثّل «حصة الإدارة من أرباح شركة شروق».
وفي رسالة مسرّبة عام 2021، طلب الحاو من مدير إدارة المخابرات مساعدته في الحصول على تراخيص سلاح، مؤكدًا أن على شروق أن تحظى بمعاملة خاصة لأنها «الشركة الوحيدة المملوكة والمسيطر عليها من إدارة المخابرات العامة». لكن الحاو قال في رده على الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين إن المعلومات بشأن صلات شروق بأجهزة مخابرات الأسد مصدرها شركات منافِسة تسعى للإساءة إلى سمعتها.
يعرّف موقع شروق الإلكتروني الشركة بأنها «شركة الأمن الأولى في سوريا»، ويتباهى بتوظيفها أكثر من ألفي موظف. وتُظهر بيانات المشتريات المتاحة للعلن التابعة للأمم المتحدة، أنها كانت المتعهد الأمني الرئيسي الوحيد لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا بين عامي 2015 و2024؛ وذكر فريق الأمم المتحدة في سوريا، في رده على الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، أن هذه العقود لم تكن لتأمين مقرات البرنامج فحسب، بل شملت أيضًا حماية مكاتب مشتركة لوكالات أممية عدة في دمشق. وفي إحدى طلبات العروض الصادرة عن البرنامج خلال تلك الفترة، سعت الأمم المتحدة إلى توظيف حراس أمن يتولون «تفتيش جميع الأشخاص والممتلكات أو السيارات» التي تدخل منشآتها.
في الوقت نفسه الذي يُزعم أن عقود وكالات الأمم المتحدة مع شروق ساعدت في تمويل إدارة المخابرات العامة، كانت تقارير المنظمة ذاتها توثّق جرائم حرب ارتكبها هذا الجهاز. فقد ذكر تقرير للأمم المتحدة عام 2023 أن ضباط الإدارة عذّبوا مدنيين سوريين، من بين ذلك تعريضهم لصدمات كهربائية متكررة، فيما وثّق تقرير آخر صدر عام 2015 حالات اغتصاب وتعذيب جنسي نفّذها ضباط من إدارة المخابرات العامة بحق معتقلين. وفي عام 2022، أدانت محكمة ألمانية ضابطًا في الإدارة، هو أنور رسلان، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما فيها التواطؤ في القتل والتعذيب والعنف الجنسي.
لطالما تعرّضت الأمم المتحدة لانتقادات حادة من منظمات حقوقية ومدنية بسبب ما وُصف بأنه «صفقة مع الشيطان» مع نظام الأسد. فخلال الحرب الأهلية، حوّلت السلطات السورية مسار المساعدات الإنسانية الأممية بعيدًا عن المناطق المعارضة التي كانت في أمسّ الحاجة إليها، وضمنت أن تذهب عقود الأمم المتحدة المربحة إلى المقرّبين من النظام، بينما وظّفت وكالات أممية، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان، عشرات الأصدقاء والمقرّبين السياسيين من الأسد وكبار مسؤولي حكومته؛ وشمل ذلك أفرادًا من عائلة وزير الخارجية فيصل المقداد نفسه، إذ استعانت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بأخيه ليكون حلقة الوصل مع وزارة الخارجية السورية، فيما وظّفت منظمة الصحة العالمية زوجته مستشارة لديها.
وفي ردّ مكتوب إلى الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، قال فريق الأمم المتحدة في سوريا إن المنظمة التزمت بالكامل بجميع إجراءات الشراء الخاصة بها عند التعاقد مع شروق، وإنها أجرت «تحريات معزَّزة للعناية الواجبة» بشأن الشركة في ذلك الوقت، لكنه أشار أيضًا إلى أن العمل في سوريا في ظل حكم الأسد كان «معقّدًا للغاية»، وأن وكالات الأمم المتحدة كانت تملك «خيارات محدودة للغاية في السوق» للحصول على الكثير من الخدمات الأساسية.
خلال عملية المناقصة على عقود الأمن التابعة للأمم المتحدة عام 2022، كتب فريق الأمم المتحدة في سوريا أن نظام الأسد سحب تراخيص عدد من شركات الأمن الأخرى، ما ترك الوكالات الأممية أمام خيارين فقط لتأمين الحراسة بما ينسجم مع معايير الأمم المتحدة: شروق، وشركة أخرى مرتبطة بالنظام تُدعى بروغارد، وقد صُنّفت الشركتان على أنهما من “المورّدين عاليي المخاطر”.
وكتب فريق الأمم المتحدة أن الوكالات الأممية “لم تكن لديها بدائل مجدية، ولذلك واصلت التعاقد مع شروق على رغم ملف المخاطر المرتفع”، مضيفًا أن “شروق قدّمت قيمة أفضل مقابل المال”.
بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، لم تختفِ شروق، بل أعادت إطلاق نفسها بهوية جديدة؛ إذ أعادت تصميم شعارها ليتضمّن العلم السوري الجديد، ونشرت إعلانات تطلب حراس أمن خلال أسابيع قليلة من انتقال السلطة.
وقال وائل الحو، الذي ورد أنه شغل منصب المدير العام لشروق منذ عام 2018، للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، إنه “عقب سقوط نظام الأسد القمعي”، دقّقت الحكومة السورية الجديدة في عمليات شروق، وخلصت إلى أن الشائعات بشأن صلات الشركة بالنظام السابق “كاذبة ومفبركة”، ومُنحت ترخيص لمواصلة نشاطها، مضيفًا: “نحن نواصل عملنا بشكل قانوني، وبموافقة رسمية من السلطات المختصة الحالية”.
تكشف مذكرات صادرة عن إدارة المخابرات العامة، تم الحصول عليها بشكل منفصل عن وثائق شروق الداخلية، ارتباط الشركة بأجهزة استخبارات الأسد. ففي تموز/ يوليو 2021، بعثت منظمة هيومن رايتس ووتش برسالة إلى شروق تطلب فيها تعليقها على تقرير كان قيد الإعداد، وأبلغتها بأنها تعتزم وصف الشركة بأنها توظّف ضباطًا سابقين في الجيش السوري، وأن لها صلات بماهر الأسد، شقيق بشار الأسد.
ويتضمن مشروع “ملفات دمشق” مذكرة موجّهة إلى رئيس إدارة المخابرات العامة تصف هذه الرسالة وتحذّر من أن تجاهل الرد عليها سيمنح هيومن رايتس ووتش مبررًا لنقل معلوماتها عن شروق إلى الأمم المتحدة. وتقترح المذكرة إعداد رد باسم شروق يتضمّن أدلة على الوضع القانوني للشركة، و”تأكيدًا على أن منظمات الأمم المتحدة كانت على علم بالطبيعة الحقيقية للشركة وأهدافها وكوادرها في وقت توقيع كل عقد”.
وتدخّلت إدارة المخابرات العامة مرة أخرى في أعمال شروق في آب/ أغسطس 2022، عندما حذّرت لجنة من كبار ضباط الاستخبارات السورية بعد علمها بأن مكتب رئيس فريق الأمم المتحدة في سوريا يقوم بـ”إعادة تقييم” لعقود المنظمة مع شروق. وكتب الضباط في مذكرة، أن هذه المراجعة تمثّل تهديدًا واضحًا للأمن القومي.
في مواجهة هذه المراجعة، تحرّكت أجهزة المخابرات السورية بقوة للضغط على الأمم المتحدة للإبقاء على علاقتها مع شركات الأمن الخاصة في البلاد. وقد حصل مسؤولو استخبارات الأسد في نهاية المطاف على ما أرادوه؛ إذ بلغت قيمة العقود التي مُنحت لشركة شروق في عامي 2023 و2024، آخر عامين من عمر النظام، أكثر مما كانت عليه في أي سنة سابقة.
وأوصى كبار ضباط المخابرات بالتأكيد لمسؤولي الأمم المتحدة ألا خيار أمامهم سوى الاعتماد على شركات سورية، موضحين أن بإمكان النظام منع استخدام شركات أمنية أجنبية عبر رفض منح تأشيرات دخول لموظفيها، أو، في حال حاولت شركة أجنبية توظيف سوريين، اشتراط موافقة النظام عليهم “لأسباب أمنية”، في إشارة ضمنية إلى أن هذه الموافقة لن تُمنح.
وقال فريق الأمم المتحدة في سوريا للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، إنه لا يملك أي “توثيق أو مراسلات” حول هذه المراجعة، وإنه “غير مطّلع” على تواصل مسؤولين سوريين مع مسؤولي الأمم المتحدة خلال تلك الفترة لضمان استمرار منح العقود لشروق أو شركات أخرى.
أخفت أجهزة استخبارات الأسد كذلك صلات الشركات بالنظام، إذ أوصت اللجنة بإبلاغ الأمم المتحدة كذبًا بأن هذه الشركات مؤسسات خاصة “لا علاقة أو تبعية لها لأي جهة رسمية”، وأن الحكومة السورية لا تتدخل في أنشطتها. فيما أشارت المذكرة ذاتها إلى أن وزارة الداخلية أمرت جميع شركات الأمن الخاصة باتخاذ “احتياطات أمنية شاملة” لإخفاء هويات موظفيها، لا سيما العناصر الأمنية العاملين لديها.
وفي مذكرة منفصلة، شرح فيصل المقداد، الذي كان آنذاك وزيرًا للخارجية ولاحقًا أصبح نائبًا للرئيس، لماذا كان النظام مصمّمًا على الحفاظ على هذه العقود؛ إذ كتب أن هذه الشركات “تشكّل صمام أمان ضد أي تحركات مشبوهة” من جانب موظفي الأمم المتحدة، وأن هذا الرصد ضروري لأنه “لا يخفى على أحد أن بعض [موظفي الأمم المتحدة] قد يكونون من بين من يقدّمون خدمات استخباراتية لأجهزة معادية”، محذرًا من أن السماح للأمم المتحدة بالتعاقد مع شركات حراسة غير سورية سيعني قدرتها على العمل “بعيدًا عن أنظار الجهات المختصة”.
وقال فريق الأمم المتحدة في سوريا للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين: “لم نرصد أي حادثة” تشير إلى أن شروق أو شركات أخرى راقبت مسؤولي الأمم المتحدة. من جهته، كتب وائل الحو للاتحاد أن شروق لا علم لها بمذكرات إدارة المخابرات العامة أو المقداد، وأن حراس الشركة “لم ولن يتجسسوا مطلقًا على موظفي الأمم المتحدة”.
وكتب المقداد أيضًا أن الدولة السورية كانت تستولي على جزء من الأموال التي تدفعها الأمم المتحدة كرواتب للعاملين في تلك الشركات. فمع مرور البلاد بأزمة اقتصادية، حافظت الدولة على سعر صرف رسمي يقيّم الليرة أعلى بكثير من سعرها في السوق السوداء، وكانت الأمم المتحدة تسدد مستحقات شركات الأمن الخاصة عبر تحويل مبالغ بالدولار الأميركي إلى مصرف سوريا المركزي، الذي يحوّلها بدوره إلى الليرة السورية وفق السعر الرسمي، ما يتيح للدولة الاستحواذ على الفارق بين السعرين، وهو ما عبّر عنه المقداد بالقول إن “خزينة الدولة تستفيد من تحويل هذه الرواتب”.
تزامنت إعادة تقييم الأمم المتحدة لعقودها مع شركة شروق، مع موجة من الانتقادات العلنية من خبراء سوريين ودوليين بشأن التعاقد مع شركات متورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ردّ مسؤولو الأمم المتحدة على هذه الشكاوى بالدفاع بقوة عن عقود المنظمة مع شروق وعن عملياتها الأوسع في سوريا.
في رسالة إلكترونية تعود إلى حزيران/ يونيو 2022، حصل عليها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين (ICIJ)، ردّ مسؤول رفيع في الفريق القطري للأمم المتحدة، فرانشيسكو غالتييري، على تقرير نقدي بعنوان Rescuing Aid in Syria، محذرًا قيادة مركز أبحاث بارز مقره واشنطن من أن مثل هذه التقارير “قد يلحق أضرارًا بالسمعة ليس فقط بالأمم المتحدة، بل أيضًا بمؤلفي هذه المواد والمنظمات التي يمثلونها”.
يتكوّن الحضور الرئيسي للأمم المتحدة في سوريا حاليًا من 12 كيانًا غير مقيم و17 كيانًا مقيمًا، من بين 29 كيانًا إجمالاً، ويقدّم معظمها مساعدات إنسانية وتنموية. توظّف وكالات الأمم المتحدة نحو 2000 موظف في سوريا، وفق ما أفادت به للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين. وفي مؤتمر صحفي عقد في اليوم التالي لسقوط نظام الأسد، قال متحدث باسم الأمم المتحدة إن منظماتها تشغّل نحو 1800 شخص للعمل في سوريا، منهم نسبة صغيرة من الأجانب. حصلت المنظمات الأممية العاملة في سوريا على نحو 651 مليون دولار تمويلًا لعملياتها الإنسانية هناك في عام 2024.
تستبعد الأمم المتحدة المتعاقدين الذين فُرضت على مالكيهم عقوبات من مجلس الأمن، لكنها غير ملزَمة باتّباع أنظمة العقوبات الصادرة عن الدول الأعضاء منفردة، وهو ما جنب الأسد وأفراد عائلته وكبار مسؤولي نظامه، الذين وفّرت لهم روسيا والصين الحماية داخل المجلس.
عمليًا، كان المقرّبون من النظام يسجّلون الشركات بأسماء مدنيين لتجنّب التدقيق؛ وتتضمن “ملفات دمشق” عشرات الإقرارات لسوريين يؤكدون أنهم يملكون شركات على الورق فقط، فيما تعود الملكية الحقيقية إلى شخصيات من داخل النظام.
على رغم أنّ هذه الإقرارات لا تذكر شروق بالاسم، لكن رسالة وائل الحو المرفَقة بالشيك المرسل إلى إدارة المخابرات العامة، تشير إلى أن حصة الأرباح كان “متنازَلًا عنها سابقًا لصالحكم” من مدنيين سوريين، في تلميح إلى ترتيب مماثل بـ”أسماء واجهة”.
أبلغ الفريق القطري للأمم المتحدة الاتحادَ الدولي للصحافيين الاستقصائيين أن وكالات الأمم المتحدة أجرت “عناية واجبة معزَّزة” على شركات الأمن المتعاقدة معها، شملت محاولات التحقق من معلومات الملكية. وأوضح أن السجلات الرسمية للشركات في سوريا “لم تكن مفيدة كمصدر موثوق”، لذلك اعتمدت عملية التدقيق أيضًا على مصادر أخرى للمعلومات، من بينها المعلومات مفتوحة المصدر والتقارير الإعلامية.
مع ذلك، يرى بعض المنتقدين أن عناية الأمم المتحدة الواجبة لم تذهب بعيدًا بما يكفي. وقال مسؤول سابق في الأمم المتحدة، تحدّث شرط عدم الكشف عن هويته لمناقشة مسائل حساسة، إن “[وكالات الأمم المتحدة] لم تقم، سواء عن قصد أو من باب الإهمال، بما يلزم من عناية واجبة للتحقيق في هذه العقود”، مضيفًا: “إذا قالوا إن هذه بيئة معقدة، فأنا أتوقع من الأمم المتحدة أن تقوم بعملها الكامل على الأرض للتحقيق في هذه البيئة المعقدة ومعرفة من يقف خلف من على وجه الدقة”.
Photo credits: ICIJ – Aref Tammawi
Illustrations on cover: ICIJ – Molly Crabapple




































































