اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٥ تموز ٢٠٢٥
يحاصر جيش 'إسرائيل' أطفالًا ونساءً بمئات الألوف، ويقهر شيبًا وشبانًا فيمنع عنهم الغذاء والدواء، ويردم حجارة معابدهم وبيوتهم ويحيل تاريخهم جميعًا إلى رماد، تزامنًا مع قتل ودم يسفحه جند هذا الجيش من عزّل وجههم هو لمصيدة موت سادية صممتها نازية جديدة تستهوي القتل والتخريب في أحطّ ما يمكن أن يصل إليه عقل بشريّ في ميزان الحرب والمواجهة.
وفي الحين الذي يستمرّ فيه هذا الجيش في تغذية نرجسية مريضة لدى قيادة سياسية لا عمل لها ولا 'سياسة' إلا في اغتراف مزيد من الدم والقتل ولا تنجز في كل المجالات إلا مزيدًا من العدوان والصلف على كل ساحات المواجهة، سيجد انه وبدعوى معالجة تهديداته الأمنية فسيفتح على نفسه مزيدًا من المهددات الأمنية الأخطر، وسيخسر هذا الكيان أكثر في ميدان السياسة وسيختتق حد الموت في ميدان الدعاية والصورة التي احتكرها لعقود طويلة.
فكيف تجوّع 'إسرائيل' غزة وبأي وسيلة تتم هندسة هذا الواقع؟
استخدم جيش الاحتلال في هذه الحرب الجوع سلاحًا منذ اليوم الأول لها، إذ حاول من خلال التحكم في كمية المساعدات الغذائية التي تصل إلى داخل القطاع التأثير على الوضع الداخلي في غزة، لتحقيق أهداف سياسية ضمن استراتيجياته لمرحلة ما بعد الحرب، وقد اضطلعت 'مديرية التنسيق لقطاع غزة في جيش الاحتلال' منذ بداية الحرب في ممارسة دورها في حرب الإبادة، إذ توعّدت علنًا في أولى أيام الحرب بفتح “أبواب جهنم” على القطاع، وقطعت كل إمدادات الغذاء والدواء والوقود والكهرباء والمياه في الأسابيع الأولى، ثم تولت مسؤولية عرقلة وصول كميات كبيرة من المساعدات عبر اتّباعها إجراءات بالغة التعقيد، بهدف تضييق الخناق بأقسى شكل ممكن، إلى جانب توليها مسؤولية إصدار أوامر الإخلاء من مناطق القطاع
ويمكن اعتبار ملف المساعدات أحد أبرز الملفات تخبطًا في إدارة الحرب على القطاع لدى جيش الاحتلال إذ فشل في وضع آلية واضحة ومنظمة لتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة. فقد استهدف في أحيان كثيرة النشطاء المسؤولين عن تأمين الشاحنات بالقصف، بينما تركهم في أحيان أخرى، كما قلصت سلطات الاحتلال دور وكالة الغوث الدولية (الأونروا) في العام الأول للحرب وصولًا لإنهائه تقريبًا في ملف المساعدات في العام الثاني لها، واعتمدت بدلًا منها مؤسسات أممية أخرى لا يحمل عملها مدلولات سياسية كمنظمة الغذاء العالمي.
ونتيجة للدعاية السياسية من شركاء التطرف في حكومة الاحتلال الحالية انقلب جيش الاحتلال مجددًا على المؤسسات الأممية البديلة للأونروا وأنشأ مؤخرًا فخاخ موت باسم مراكز توزيع المساعدات لم يقبلها أي طرف داخلي أو خارجي سوى حفنة من نازيين معبأين بأثر فشل كل خططهم السابقة التي حاولوا فيها تغيير الواقع في القطاع ولا سيما “العشائر” و”الفقاعات الإنسانية” والميناء الأمريكي.
التجويع يدق آخر مسمار في نعش المبادئ
أدار الاحتلال ومنظوماته الدبلوماسية والإعلامية ووكلاؤه في العالم شكل هذه الحرب وحاول تزييف نازيته ووفر غطاءً دعائيًا لجرائمه غير المسبوقة في القطاع، إذ منع دخول مراسلي جميع الوكالات الأجنبية، وعادةً ما شكك في أعداد الشهداء وبرر قتله للمدنيين بأنهم أضرار جانبية، وحمّل المقاومة دائمًا مسؤولية جرائمه، إلا أنه ومع الطفل الأول الذي مات جوعًا في غزة فقد دقّ الاحتلال بيديه الغارقتين بدماء الأطفال آخر مسمار في نعش كل مبادئ وقيم الإنسانية، وحكم على نفسه للأبد بأنه كيان بلطجيّ جزّار يفرّ جنوده من أمام المقاتلين لحطة المواجهة ويستقوي بآلته وصدفة من حالٍ سياسيّ متردي في محيطه الجغرافي على أطفال ونساء وشيوخ.
كما حرق الاحتلال بهذا المستوى من الانحطاط آخر سفن بناء التسوية والتفاهم مع كل المكونات المحيطة به، والتي إن هادنته مؤقتًا فإنها حتمًا باتت تستشعر خطره ولا شك أنها ستتحيّن مواجهته عاجلًا أم آجلًا، ومما لا شكّ فيه أن هذا الضغط الكبير الذي يشكله الاحتلال على الضمائر الإنسانية إقليميًا وعالميًا سيكون له أثر الزلازل على البراكين الكامنة، والتي لن تدور حركتها القادمة حتمًا لمصلحة هذا الكيان.
ولهذا المعنى تنبّه رامي إيغرا، الرئيس السابق لشعبة الأسرى والمفقودين في الموساد بقوله: 'المشاهد الخارجة من قطاع غزة إلى العالم ستلحق ضرراً بسمعة وصورة (إسرائيل) لأجيال، ولذلك يجب إنهاء الحرب في غزة في أسرع وقت ممكن، فنحن سندفع الثمن على ما يجري في غزة، وأطفالنا سيدفعون الثمن، وأحفادنا سيدفعون الثمن، ونتنياهو لا يدرك ذلك، كما وجه بعض أعضاء الكنيست رسائل إلى رئيس الأركان ووزير الحرب، دعوا فيها إلى اتخاذ 'خطوات دراماتيكية وفورية' لتخفيف الأزمة الإنسانية في قطاع غزة.
ولعلّ من سخرية هذا الكيان واستهزاء آلة دعايته بكل حدود العقل والمنطق ما بثه قبل أيام حول إجلاء حيوانات قطاع غزة من الحمير إلى خارج القطاع لكونها أصيبت بالتعب والجوع والإنهاك الشديد من أثر الحرب، في مفارقة عجيبة لا تقل فجاجةً عن ترشيح مجرم حرب مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية 'نتنياهو' لترامب -الذي موّل وسلّح مذبحة ومجزرة 'المساعدات'- لمنح الأخير جائزة نوبل للسلام، في الوقت ذاته الذي تفرض فيه خارجية أمريكا عقوبات على المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيز، في 'حفلة جنون' لا تنتهي بفرض عقوبات على المحكمة التي تجرأت على ملاحقة نتنياهو.
أثر التجويع في ميدان الحرب
لا شكّ أن الاحتلال كان يرتجي من هذا الجحيم الذي يصبّه على صدور وأمعاء أهل غزة تغييرًا إستراتيجيًا في مستوى التفكير وأن يكسر روح المقاومة وفكرتها في عقول الناس.
وهنا تبرز صورة أخرى من قلب هذه المذبحة والمجاعة لتكشف عن روحية الحاج السبعينيّ عبد العزيز الجمل والد الشهداء الثلاثة (شعبان، وأحمد، ومصطفى) بعد أن قدم أبناءه المقاومين الثلاثة شهداء على خط المواجهة مع جيش الاحتلال، يقول: 'من مات ولم تحدثه نفسه بالغزو فقد مات على الجاهلية' ويفاجئ بهمته كل محيط به فيضيف: 'طلبت من أولادي قبل استشهادهم أن يعلموني على السلاح' إلا أنهم لم يفعلوا فهم من سيقاتلون نيابةً عن والدهم الطاعن في السن -ونيابةً عن أمة بأسرها-.
وهنا تخنق كلمات الحاج عبد العزيز العبرات والدموع، ويقول مستنكرًا على نفسه: 'أأموت وأنا على جنبي؟! أأموت في غير موطن قتال؟' يقولها وقد ضعف جسده وكاد يذوب بفعل التجويع لحمه، ومن ثم يُتمُّ احتسابَه وتسليمَه برده على من يؤكد له شرف وعظيم ما قدم في هذه المعركة وكأنه يزجر من استكثر ما قدّمه في هذه الحرب بقوله: 'مع الله قليل'.